زقاق المدق:رحلة قارئ صومالي بين سطور الماضي وأزقة الحاضر

عبدالرحمن غوري- مقديشو

في ثمانينيات القرن الماضي، كنت أجد في الأدب نافذة سحرية تطل على عوالم لم تطأها قدماي من قبل. كنت أبحث بين صفحات الكتب عن عزاء لروح متعطشة لاكتشاف المجهول. في تلك الفترة، كنت أتردد على مكتبة المركز الثقافي الإسلامي، التي كانت تقع قبالة بار فيات بمقديشو. وذات يوم، بينما كنت أفتش بين رفوف المكتبة، وقع بين يدي كتاب ترك أثراً عميقاً في نفسي. كان هذا الكتاب هو رواية “زقاق المدق” لنجيب محفوظ.

منذ أن فتحت الصفحة الأولى، وجدت نفسي مسافراً عبر الكلمات إلى قلب القاهرة القديمة، إلى أزقتها التي تضج بالحياة، حيث تختلط الأحلام بالألم، ويعانق الأمل البؤس. قرأت بشغف قصة حميدة الطموحة، تلك الفتاة التي حملتها أحلامها بعيداً عن الزقاق، لكنها دفعت ثمناً باهظاً لطموحاتها، حين قادتها الأقدار إلى براثن قوّاد يدعى فرج.

في تلك اللحظات، لم أكن مجرد قارئ يراقب من بعيد. كنت أرى نفسي في عباس الحلو، الحلاق العاشق، الذي سعى وراء قلب حميدة بكل ما يملك من شغف. حزنت على مقتله في إحدى الحانات، وشعرت وكأن جزءاً مني قد انتهى معه. ومع ذلك، لم يكن عباس أو حميدة وحدهما ما أسرني، بل كان الزقاق نفسه. هذا المكان العجيب الذي بدا أشبه بكائن حي، ينبض بالحياة، يحتضن سكانه بشغف، ويشهد على أحلامهم وصراعاتهم وآلامهم.

مرت السنوات، وتغيرت أمور كثيرة في حياتي، لكن “زقاق المدق” ظل حاضراً في ذاكرتي. كنت أراه في أزقة حمروين العريقة بمقديشو، أو في الصور التي كان يرسلها إليّ صديقي الوفي علي حلني من القاهرة. كان الزقاق أشبه بنغمة عالقة في ذهني، نداءً داخلياً يزداد قوة مع مرور الزمن.

ثم جاء عام 2020، بعد قرابة أربعين عاماً من قراءتي الأولى للرواية. تحقق الحلم الذي طالما راودني. زرت القاهرة، ولم يكن ذلك ليحدث لولا دعم صديقي علي حلني، ذلك الرجل الذي جمعتني به صداقة عمرها ثلاثون عاماً.

كان علي حلني أكثر من صديق؛ كان جسراً بين الماضي والحاضر، بين الأحلام والواقع. كانت رحلتي إلى القاهرة بفضله بمثابة عودة إلى ذكريات شبابي وأحلامي القديمة. شعرت في تلك الرحلة أن الأدب لا يقتصر على الكلمات، بل يمكن أن يغير مسار حياتنا، وأن الصداقة الحقيقية قادرة على تحقيق المستحيل.

عندما وصلت إلى زقاق المدق، شعرت وكأنني أدخل صفحات الرواية مجدداً. الأزقة التي تخيلتها ظهرت أمامي، نابضة بالحياة، محملة بروح الحاضر. رغم تغير بعض ملامحها، إلا أن صخبها وحيويتها ظلا كما وصفهما نجيب محفوظ.

توقفت هناك، أنظر إلى النوافذ كأنني أبحث عن حميدة، أو أصغي إلى همسات عباس الحلو ورفاقه في قهوة المعلم كرشة. جلست في مقهى قريب، وكأنني في لقاء مع أشباح الماضي. تذكرت كل لحظة أمضيتها مع الرواية، واسترجعت حواراتها وصراعاتها.

أدركت حينها أن “زقاق المدق” لم يكن مجرد حي شعبي في القاهرة، بل كان رمزاً لكل أزقة العالم التي تحتضن حياة البشر بكل تناقضاتها: الحب والخيانة، الحلم والخيبة، الفرح والحزن.

عندما عدت إلى مقديشو، شعرت أنني لم أعد فقط بذكرى زيارة الزقاق، بل عدت بدرس عميق عن الحياة. تعلمت أن الأدب ليس مجرد كلمات نقرأها، بل قوة تتجاوز الحدود والمسافات. عدت أيضاً بامتنان لا ينضب لصديقي علي حلني، الذي لم يخذلني يوماً وجعل هذا الحلم حقيقة.

اليوم، وأنا أستعيد تلك اللحظات، أؤمن بأن الأماكن مثل الصداقات ليست مجرد جغرافيا عابرة أو ذكريات من الماضي. هي جسور تربط بين القلوب، حين تمتزج الحكايات بروح الإخلاص. زيارتي لـ”زقاق المدق” كانت أكثر من رحلة؛ كانت تجربة علمتني أن الأحلام القديمة قد تجد طريقها إلى الواقع حين تُغذى بالصداقة والوفاء.

عبد الرحمن غوري

عبدالرحمن غوري باحث في الأدب والفلسفة
زر الذهاب إلى الأعلى