في الصومال، لا نجد خلافا في اللغة، ولا تمايزا في العرق، ولا تنوعا في الدين. فاللون واحد، والقبلة واحدة، والذاكرة مشتركة، من ساحل البحر إلى مرابع الإبل. ومع ذلك، لا يزال الدم يُراق، وتُنصب المتاريس على تخوم الأحياء، وتُنسف الجسور بين أبناء الجذر الواحد.
في الغرب، حيث تشق الأصول واللغات مجتمعاتهم إلى فسيفساء بشرية معقدة، يسير التعايش على قدمين، وتتنافس الكفاءات في الضوء لا في الظلال. لم يعد أحد هناك يسأل: من أي قبيلة جاء الوزير؟ بل: ما الذي سيقدمه؟ أما عندنا، فالسؤال الأول في كل نقاش سياسي هو: ابن من؟ وكأن الانتماء للوطن لا يكفي، فلا بد من ختم العشيرة، وخاتم الفرع، وسند النسب.
في بريطانيا اليوم، وزير خارجية أسود، من جذور كاريبية، وخريج هارفارد. لم تقم الدنيا، ولم تتصدر الصحف بمانشيتات من قبيل: سابقة في تاريخ العرش البريطاني. وفي نيويورك، قد يصل إلى حاكمية المدينة شاب مسلم، مؤيد للفلسطينيين، من أصول أوغندية. لم تُرصَد الفتاوى، ولم تُعلَن الطوارئ في الضواحي، ولم تُفتح منابر الهلع باسم الهوية.
أما نحن، فبلادنا لا تحتاج إلى تنوع كي تنقسم. يكفي أن تختلف العشيرة، أو حتى الفرع داخل العشيرة، لتشتعل الحروب. نصف قرن من الاستقلال، ونحن نعيد مشهد الانقسام ذاته، بنفس المفردات، ونفس النوايا. لا جديد سوى الأسماء.
يُقال إن الأمم التي تتشابه كثيرا تُصاب بالملل. لكننا تجاوزنا الملل إلى العداء. لا نحتمل بعضنا، رغم أننا نحفظ الأغاني نفسها، ونروي الحكايات نفسها، ونقسم بالقسم ذاته. فهل هو ضيق في القلب؟ أم ضيق في الخيال؟ أم لعلنا لم نعتد بعد على فكرة الوطن؟ فنحن نعرف الأرض، ونحفظ المسالك، لكننا لا نثق بمن يشاركنا الخطى.
في الغرب، يعتذر القادة عن جرائم الاستعمار، وينتخب الناس من كانوا بالأمس في الهامش. أما في الصومال، فلا تزال الحرب الأهلية واقفة على الباب، بلهجتها المعهودة: من يحكم من؟ من يُمثّل من؟ من له اليد الطولى في هذه الرقعة أو تلك؟
لسنا بحاجة إلى رئيس تخرّج من أوكسفورد، ولا إلى وزير درس في السوربون. نحن بحاجة فقط إلى من يدرك أن الصومالي الآخر ليس غريبا، بل شقيق في الحلم، حتى لو وُلد في مدينة أخرى، أو ارتدى قميصا بلون مختلف.
وحين نبلغ تلك اللحظة، لحظة أن نصغي إلى بعضنا دون أن نتحسس السلاح، ربما نبدأ، فقط نبدأ، بالخروج من النفق… ذلك النفق الذي لم يكن مظلما إلا لأننا نحن من أطفأنا مصابيحه بأيدينا.
إلى اللقاء