وعي يخلق فراغه…قراءة في جرح الوجود السارتري

حين كانت أوروبا تلتقط أنفاسها من تحت أنقاض حربين مهلكتين، خرج جان بول سارتر من الظلال، لا ليطرح السؤال “ما الإنسان؟”، بل ليفتش عمّا يمكن أن يصير إليه هذا الكائن، الذي يمضي في الأفق، ولا يدري إن كان يسير نحو النجاة أم نحو السقوط.

في كتابه الأشهر “الوجود والعدم”، لا يضع سارتر نسقا فلسفيا منغلقا، ولا يبني نظرية مكتملة، بل يفتح جرحا وجوديا لا يندمل. فالوعي، في نظره، لا يدرك ذاته من خلال ما هو عليه، بل من خلال ما يفتقده. الإنسان لا تتحدد هويته بما يملكه من صفات، بل بما ينقصه، بالمساحات الفارغة التي تتخلله، بالعدم الذي ينبع من أعماقه لا من خارجه.

هكذا، يغدو الإنسان مشروعا دائم التشكل، لا يقف عند ما هو كائن، بل يتوق إلى ما يمكن أن يكون. العدم، في فلسفته، ليس غيابا خاويا، بل ومضة في جوف الصمت، شرارة في ظلمة الغيب، صدى لسؤال لم يُطرح بعد، وحنين إلى اكتمال لم يُنجز.

في تأملاته، لا يكون العدم نقيض الوجود، بل شريكه الصامت. فمن عمق السكون، يدرك الإنسان أنه ليس جمادا ولا نباتا، بل كائنا هشّا يسير على حواف اليقين، يسائل، ويقلق، ويتمرد. الصخرة لا تسأل عن معناها، أمّا الإنسان فيسأل، حتى وهو يهوي، وحتى حين يوقن أن لا جواب في الأفق.

العدم، إذًا، يتحول إلى طاقة دفينة في صميم الوعي. ليست الحياة هي ما يوجع، بل وعينا الذي لا يكف عن النقصان. وما نسميه حرية، ليس سوى هذا التوتر المؤلم بين الحضور والغياب، بين أن نكون وأن نعجز عن الاكتمال.

لكن هذه الرؤية، على عمقها، لا تخلو من مفارقة. فإذا اختُزل العدم في تجربة الذات، أصبح الإنسان مركز العالم، وتلاشت الحقائق خارج وعيه. فماذا عن الفقد، والموت، والكوارث التي تداهمنا بلا استئذان؟ هل كل ما لا نفهمه انعكاس لفراغ في داخلنا؟ وهل تبقى الحرية حرية حين تتحول إلى قلق مزمن ورفض لا يهدأ؟

ثم تهمس فلسفة سارتر بجملتها الفاصلة: لا معنى يُوهب، بل يُنتج. لا حقيقة جاهزة، بل تُبتكر. وهنا، تتحول الحرية من هبة إلى تكليف، ومن وعد بالخلاص إلى عبء دائم. الإنسان وحده، وسط عالم خال من العناية والعزاء، يجد نفسه مضطرا إلى أن يصوغ المعنى بنفسه.

ومع ذلك، تبقى في نظرية العدم لمحة نافذة: أن الإنسان لا يُعرَف بثباته، بل بتحوله. لا بما يملك، بل بما يفتقد. لا بطمأنينته، بل بشوقه إلى الامتلاء. الرغبة في أن يصبح شيئا أكثر، أن يملأ ذلك الفراغ الذي أدركه بوعيه، هي جوهر إنسانيته.

لقد كتب سارتر هذه التأملات منذ أكثر من سبعين عاما، ولو كان بيننا اليوم، لرأى كيف تحول العدم من فكرة فلسفية إلى مشهد يومي. كيف صار فراغ الوعي مرآة لفراغ العالم، وكيف بات الإنسان معلقا بين وفرة في الخيارات، وعجز متزايد عن المعنى.

ومع هذا كله، يظل سؤاله القديم قائما، يتكرر بصيغ شتى، ولا ينتهي:

إذا كان الوعي يخلق فراغه،

فمن ذا الذي يملأ هذا الفراغ بالحقيقة؟

عبد الرحمن غوري

عبدالرحمن غوري باحث في الأدب والفلسفة
زر الذهاب إلى الأعلى