الإنسان قيد التعديل

بعض الكتب لا تبحث عنها، بل تخرج إليك من الظل. تظهر على رف إلكتروني في زاوية لم تقصدها. هذا ما فعله بي كتاب “دكتاتورية المستنيرين: روح الإنسانوية العابرة وأهدافها” لأولغا تشيتفيريكوفا. لم يرشحه لي أحد، لكنه وجد طريقه إلي في اللحظة التي ظننت فيها أنني قرأت كل ما يجب عن الإنسان.

وجدته صدفة على تطبيق “أبجد”، كتابا متوسط الحجم، متقشف الغلاف، من صفحته الأولى يقول لك: انتبه، لقد أصبحت قابلا للاستبدال.

تشيتفيريكوفا لا تصرخ، ولا تلوح بالخطر كما يفعل أصحاب رسائل الهلع. تكتب كما يكتب من شهد الكارثة بعد وقوعها، ببرودة يعتريها أسى، وبنبرة تشبه صوت صديق يخبرك بأن منزلك احترق بينما كنت في إجازة.

في هذا الكتاب، لا تجد نهاية كونية على طريقة أفلام هوليوود، بل تجد نهايتك أنت، تتشكل بصمت: حين تفقد قدرتك على التوقف، حين تستبدل الرحمة بالكفاءة، وحين يقاس الإنسان لا بما يشعر، بل بما ينتج. لا تقول الكاتبة ذلك صراحة، لكنها تلمح: لسنا نقبل على مستقبل، بل نعاد تشكيلنا لوظيفة ضيقة ضمن نظام لا يعترف بالحزن، ولا يترك مساحة للتردد.

كل شيء هناك خضع لإعادة التسمية: السيطرة تسمى تمكينا، والإخضاع يقدم تحسينا، والخلود يباع في قوارير طبية. لم يعد مطلوبا من الإنسان أن يعرف نفسه، بل أن يعيد تكوينها. لم يطلب منه أن يكون صالحا، بل فعالا. حتى الموت — ذلك الحد الذي كان يحفظ للضعف كرامته — بات ينظر إليه كخلل تقني، وكأن الأجساد أجهزة تأخرت في التحديث.

تشيتفيريكوفا لا تعادي العلم، ولا تحارب الآلة. لا تهاجم الذكاء الاصطناعي، ولا تلعن التقدم. إنها فقط تطرح أسئلة متعددة:

من سيبقى حين تنتهي الحاجة إلى من يشعر، ويبدأ الطلب على من يبرمج؟

 هل بقي فيك شيء لا يباع؟

هل جربت الضعف يوما دون أن تخجل؟

هل تذكرت أنك لست مجرد خيار ذكي في قائمة طويلة من البدائل؟

قد نربح معركة ضد المرض، نؤخر الشيخوخة، ونطيل الأعمار.

لكن من يؤخر تيه المعنى، وارتباك الروح؟

لا أحد ينجو منه، إن لم يكن فيه شيء عصي على التعديل، منيع على الحذف، لا تفلح معه أوامر التحديث.

وربنا هو المنجي.

عبد الرحمن غوري

عبدالرحمن غوري باحث في الأدب والفلسفة
زر الذهاب إلى الأعلى