مؤشرات زيادة التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي بين فرنسا ودول القرن الإفريقي

القاهرة: صفاء عزب

          من الملاحظ أن هناك حالة من التراجع للنفوذ الفرنسي في المناطق الإفريقية الغربية التي اعتادت أن تمارس فيها نفوذها بشكل كبير في فترات سابقة، ولذلك تسعى الإدارة الفرنسية الحالية بقيادة ماكرون إلى تعويض ذلك بالبحث عن نقاط ارتكاز جديدة لها من خلال منطقة القرن الإفريقي وخاصة إثيوبيا وجيبوتي اللتين تتمتعان بأهمية كبرى بالنسبة لفرنسا. وقد بدا واضحا في تلك الزيارة التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في ديسمبر الماضي إلى جيبوتي وإثيوبيا والتي جاءت بعد خمس سنوات منذ آخر زيارة رسمية لمسؤول فرنسي رفيع للمنطقة، ما يؤكد سعي فرنسا لاستعادة ما فقدته من نفوذ في الفترة الماضية.

وتعد منطقة القرن الإفريقي ذات أهمية استراتيجية في ظل ما تمتلكه من وجود عسكري هو الأكبر من نوعه في قارة إفريقيا حيث يوجد 1500 جندي فرنسي في القاعدة الفرنسية بجيبوتي بالإضافة إلى أن ذلك يتيح لفرنسا التواجد بالقرب من منطقة البحر الأحمر ذات الأهمية التجارية العالمية وكذلك الأهمية السياسية لقربه من مسرح الأحداث بمنطقة الشرق الأوسط. كما تنظر فرنسا للمنطقة باعتبارها ورقة أساسية لمنحها التأثير في ملفات حيوية ذات صلة بمصالحها على الصعيد الإقليمي بشكل يعيد لها وزنها السياسي والعسكري في المنطقة والذي تأثر بدخول أطراف منافسة لها أهداف ومصالح كبرى. ومن ثم يمكن القول أن هناك تحولا كبيرا في السياسة الفرنسية بنقل الاهتمامات من الجانب الغربي إلى الساحل الشرقي للقارة الإفريقية حيث توجد منطقة القرن الإفريقي.

ومن المهم أن نحدد ما يشير إليه مصطلح القرن الإفريقي وهو يقصد به منطقة جغرافية وسياسية تقع في شرق إفريقيا وتضم إثيوبيا وإريتريا والصومال وجيبوتي وفي بعض الأحيان يتسع المفهوم ليشمل دولا أخرى مثل السودان وجنوب السودان وكينيا وأوغندا. وبشكل عام تتميز المنطقة بأهمة استراتيجية كبيرة لأنها تطل على ممرات مائية حيوية وتعتبر منطقة عبور للتجارة العالمية.

المدخل الاقتصادي لدعم العلاقة

ويعد المدخل الاقتصادي من أهم الأدوات التي تستعين بها فرنسا لتقوية علاقاتها بدول القرن الإفريقي ذوي الموقع الجغرافي الحيوي والأهمية الجيوسياسية، حيث تسعى لفتح آفاق التعاون في المجال الاقتصادي للتعاطي مع معطيات المرحلة وما تشهده المنطقة من تغيرات جيوسياسية تحقيقا لمصالحها الحيوية في قارة إفريقيا. وتكشف المؤشرات أنه إذا كانت منطقة شمال إفريقيا الشريك الأهم للاتحاد الأوروبي في القارة السمراء فإن فرنسا تعتبر من أكبر الشركاء التجاريين للإتحاد الأوروبي مع دول القرن الإفريقي.

المتغيرات الدافعة لفرنسا لتوطيد علاقتها مع دول القرن الإفريقي

لاشك أن اهتمام فرنسا بالقرن الإفريقي بشكل أكبر مما كان سابقا يخضع لعدة عوامل لعبت دورها في التأثير على قوة العلاقة الاقتصادية مع منطقة القرن الإفريقي ورغبتها في توسيع آفاقها.

ويمكن تلخيصها في:

  • التغيرات الجيوسياسية في المنطقة مثل الانقلابات العسكرية التي حدثت في بعض الدول الإفريقية وكان لها تأثيرها على العلاقات التجارية بل وتراجع كل العلاقات نتيجة لظهور أنظمة سياسية رافضة للوجود الفرنسي في بلادها.
  • سعي فرنسا إلى الحفاظ على نفوذها في المنطقة أو تعويض المفقود منه في منطقة القرن الإفريقي التي تعد منطقة استراتيجية لها.
  • كما أدى وجود ظواهر جديدة خاصة بزيادة التوجه نحو تحالفات جديدة مع قوى أخرى دولية إلى تحفيز فرنسا للحفاظ على مكانتها بالمنطقة ببناء تحالفات لمواجهة التحالفات المنافسة.

أهداف فرنسا للتقارب مع دول القرن الإفريقي والتعاون الاقتصادي معهم

إلى جانب المتغيرات الإقليمية والدولية التي دفعت فرنسا للتوجه بشكل أكبر للتعاون مع دول القرن الإفريقي، فإن هناك مجموعة من الأهداف التي تحفز فرنسا للمضي قدما في توطيد أواصر العلاقة وزيادة حجم التبادل التجاري مع هذه الدول. ويمكن تقسيمها إلى:

  1. الأهمية الجيوسياسية للمنطقة:

 تعتبر منطقة القرن الإفريقي بموقعها الجغرافي المميز ذات أهمية خاصة وحيوية بحكم إطلالها على البحر الأحمر ومضيق باب المندب الذي يعد ممرا رئيسيا للتجارة العالمية. وتسعى فرنسا من خلال تقاربها مع دول المنطقة واستغلال ميزتها الاستراتيجية في زيادة نفوذها من أجل الحفاظ على مصالحها في مواجهة القوى الدولية الأخرى التي تنافسها بقوة في هذه المنطقة مثل الصين وروسيا وتركيا والعمل على تقليص دورهم.

  • المصالح الإقتصادية:

لاتنفصل أهداف فرنسا السياسيية عن تحقيق مكاسبها الاقتصادية باستغلال علاقاتها بدولها لفتح أسواق للسلع الفرنسية في المنطقة حيث تعتبر دول المنطقة ساحة واسعة للشركات الفرنسية خاصة في مجال الطاقة والبنية التحتية والاتصالات. وتتضمن المصالح الاقتصادية لفرنسا أيضا استغلال الموارد الخام ومصادر الطاقة الإفريقية.

  • العلاقات الثقافية :

تعد فرنسا من الدول الأوروبية التي تحرص على بسط ثقافتها ونشرها في مختلف أرجاء المعمورة وخاصة القارة السمراء التي كانت قد احتلت عددا كبيرا من دولها وتركت أثر هذا الاحتلال في صورة موروث ثقافي ولغة فرنسية منتشرة في العديد من المناطق وهو ما تحرص على بقائه كنموذج للسيطرة الثقافية التي تمثل إحدى القوى الناعمة لفرنسا.

  • الحفاظ على الأمن ومكافحة الإرهاب:

بطبيعة الحال تواجه منطقة القرن الإفريقي تحديات أمنية كبيرة في مقدمتها الإرهاب والقرصنة البحرية وبدورها تسعى فرنسا لمواجهة هذه التحديات حفاظا على مصالحها بالمنطقة.

التبادل التجاري بين فرنسا ومنطقة القرن الإفريقي

في هذا الإطار تحرص فرنسا على دعم تعاملاتها التجارية والاقتصادية مع دول القرن الإفريقي بشكل عام لتكون سوقا واعدة لمنتجاتها وشركاهتها الفرنسية بما يحقق أهدافا سياسية واقتصادية في ذات الوقت. وتشمل الصادرات الفرنسية للمنطقة كلا من المعدات الميكانيكية والكهربية ومنتجات صناعة الأغذية الزراعية والمنتجات الصيدلانية ومعدات النقل. أما الواردات الفرنسية من دول المنطقة فتشمل المواد الخام، والمنتجات الزراعية ومواد الطاقة. 

كما توجد استثمارات كبيرة في هذه الدول تشمل قطاعات النقل والطاقة والاتصالات والبنية التحتية.

ومع ذلك يظل حجم التبادل التجاري بين فرنسا ودول القرن الإفريقي غير محدد على وجه الدقة خاصة وأنه يختلف من فترة لأخرى كما توجد ندرة في الأرقام الحديثة ويرجع ذلك لعدة أسباب أهمها:

  1. التغيرات الجيوسياسية بالمنطقة والتي تجعل الأوضاع السياسية والأمنية في دولها تنعكس بشكل مؤثر على حجم التبادل مما يؤدي إلى عدم استقرار الأرقام.
  2. تداخل البيانات حيث كثيرا ما يتم تضمين إحصائيات إفريقيا ككل أو دول شرق إفريقيا بشكل إجمالي.
  3. كما يؤدي تنوع العلاقات إلى صعوبة وجود رقم موحد حيث تختلف العلاقات التجارية بين فرنسا وكل دولة من دول القرن الإفريقي.

نماذج لصور التبادل التجاري بين فرنسا وبعض دول القرن الإفريقي

على الرغم من ندرة المعلومات المتعلقة بحجم التبادل التجاري بين فرنسا ومنطقة الإفريقي إلا أن هناك بعض مؤشرات يمكن أن ترسم لنا ملامح هذه العلاقة التجارية وميلها نحو الزيادة من خلال تناول علاقاتها مع بعض دول القرن الإفريقي كالتالي:

  1. فرنسا والصومال

يعد الصومال من الدول المهمة لفرنسا بالمنطقة وهي تحرص على إقامة أنشطة عديدة فيه ودعمه من خلال الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة. وكانت فرنسا قد مولت مركزا لإعادة تأهيل المحاربين القديمة في مدينة بيدوا بالشراكة مع منظمة الهجرة الدولية. كما شاركت ب 320 ألف يورو في القسم الغذائي لبرنامج اللجنة الدولية للصليب الأحمر بالصومال عام 2014. ودعمت مشروع المساعدة الغذائية في حالات الطوارئ التابع لمنظمة التضامن الدولية غير الحكومية وذلك بمبلغ 300 ألف يورو. كما سجل عام 2016 ارتفاع المساعدات الفرنسية للصومال لتبلغ 2. مليون يورو لتصبح في المرتبة الثالثة والعشرين في قائمة الدول المانحة له.

ومع ذلك تبقى العلاقات التجارية محدودة بين البلدين حتى أنها لم تتجاوز 48 مليون يورو في عام 2017 كان منها 38 مليون يورو صادرات فرنسية و10 يورو للواردات. كما لم تسجل الوثائق أية تدفقات استثمارية فرنسية إلى الصومال منذ عام 2009.

  • فرنسا وإثيوبيا

تعد إثيوبيا هي إحدى دولتي القرن الإفريقي اللتين زارهما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نهاية العام الماضي وصرح خلال زيارته بأن من حق إثيوبيا الحصول على منفذ على البحر وبدت فرنسا مؤيدة لها في مواجهة خلافها وقتها مع الصومال. كما كانت هناك العديد من الزيارات المتبادلة بين مسؤولي البلدين عبر العقدين الماضيين بشكل يعكس حرص البلدين على دعم علاقتهما. وتحظى إثيوبيا بالمنح والقروض الفرنسية أكثر من الصومال فقد حصلت على 100 مليون يورو من الوكالة الفرنسية للتنمية إلى جانب حصولها على قرض استثنائي من نفس الوكالة بقيمة 80 مليون يورو لتحديث شبكة الكهرباء بمساعدة شركات فرنسية. كما سجل مؤشر التبادل التجاري بين البلدين عام 2018 ما قيمته 655 مليون يورو منها 615 مليون يورو صادرات فرنسية لإثيوبيا شاملة طائرات إيرباص وأدوية وآلات، و38 مليون واردات فرنسا من إثيوبيا شاملة القهوة الخام والمنتجات الزراعية.

وتعد فرنسا مستثمرا أوروبيا رائدا في إثيوبيا حيث تعمل 57 شركة فرنسية في إثيوبيا.

  • فرنسا وجيبوتي

تعد جيبوتي هي الدولة الثانية بمنطقة القرن الإفريقي التي حرص ماكرون على زيارتها في ديسمبر الماضي وهي تحظى باهتمام فرنسي كبير ليس فقط لكونها تحتضن قاعدة عسكرية فرنسية كبيرة ضمن القواعد العسكرية الأجنبية المتنوعة الموجودة على أرض جيبوتي، إنما توجد أيضا علاقات وطيدة قديمة بين البلدين ذات صلة بالاقتصاد والاستثمار ويقدر مصرف فرنسا مخزون الاستثمارات الفرنسية في جيبوتي بقيمة 19.6 مليون يورو عام 2015. كما توجد مؤسسات فرنسية كثيرة فيها. وفي عام 2016 بلغ حجم الصادرات الفرنسية إلى جيبوتي 86 مليون يورو. وفي إطار توطيد العلاقة التجارية الثنائية تم إنشاء المجموعة التجارية بين البلدين عام 2017 من 25 شخصا من أصحاب المشروعات الاستثمارية من جيبوتي وفرنسا وذلك لدعم التعاون في البنية التحتية والطاقة المتجددة والخدمات والتجهيزات. حرصا من فرنسا على توطيد علاقتها بجيبوتي تم عقد اتفاقيتين بينهما لبناء مطار جيبوتي وتطوير وكالة فضاء ولكن لم يتم الإعلان عن التفاصيل.

  • فرنسا وكينيا

تكشف الأرقام عن زيادة التوجه الفرنسي لشرق إفريقيا حيث يبدو تضاعف حجم الشركات في كينيا وزيادة حجم التبادل بين الاتحاد الأوروبي عموما وكينيا. كما بلغ إجمالي التجارة بين الاتحاد الأوروببي بما فيه فرنسا مع كينيا 3 مليار يورو عام 2023  وذلك بزيادة 16% مقارنة بعام 2018 . كما توجد مؤشرت قوية على زيادة النشاط التجاري الفرنسي في كينيا وذلك برصد تضاعف وجود الشركات الفرنسية فيها من 50 شركة إلى 140 شركة خلال العقد الأخير.

وختاما:

يمكن القول أن هناك رغبة قوية لدى فرنسا لتوطيد علاقاتها بدول منطقة القرن الإفريقي لتعويض خسائرها في الجانب الآخر من القارة والعمل على تعظيم الاستفادة والمكاسب الاقتصادية من خلال استغلال المنطقة لتكون أسواقا رائجة لمنتجاتها في الوقت الذي تعمل على الاستفادة بكنوزها البكر من المواد الخام ومصادر الطاقة.

وإذا كان من حق فرنسا أن تسعى لتحقيق مصالحها فإن الأولى أن تحرص دول المنطقة على إعادة النظر لمواردها ومقدراتها الاقتصادية وتعظيم الاستفادة منها بشكل أفضل والدخول في شراكات عادلة ومتوازنة مع الجانب الفرنسي لحسن استثمار ثرواتها وعدم الاكتفاء بتصديرها خام ثم تقوم فرنسا بإعادة تصديره بعد تصنيعه وتسويقه في الدول الإفريقية. كما يجب الاستفادة من الشراكة مع فرنسا في خلق صديق دولى وحليف أوروبي مهم يدعم القارة الإفريقية في قضاياها المختلفة في المحافل الدولية وخاصة قضية المناخ.

صفاء عزب

كاتبة وصجفية مصرية
زر الذهاب إلى الأعلى