في بداية عهدي بالقراءة طالعت مولد التراجيديا فلم افهم منه شيئا شعرت انني امام كتاب غامض مليء بالإشارات إلى الأساطير والموسيقى والفلسفة بعد عقدين اعدت قراءته وهذه المرة بدأت تتضح الصورة لم يكن فريدريش نيتشه يتحدث فقط عن المسرح الإغريقي بل كان يعلن ثورة على العقلانية الغربية بأكملها.
يرى ان الفن عند الإغريق لم يكن مجرد ترفيه بل كان جوهر الحياة وسيلة لمواجهة قسوتها وأن التراجيديا لم تكن مجرد مسرحيات بل تجربة روحية تجمع بين قوتين متضادتين تتحكمان في كل شيء الأبولوني والديونيسي الأول يمثل الجمال والنظام والعقل والتناسق وهو ما نجده في التماثيل الإغريقية والشعر الملحمي اما الثاني فيمثل الفوضى والنشوة والغريزة وهو ما يظهر في الموسيقى والرقص والاحتفالات الصاخبة.
هاتان القوتان لم تكونا في صراع عدائي بل كانتا تتفاعلان بطريقة ديناميكية مما جعل التراجيديا الإغريقية اعظم اشكال الفن لكن هذا التوازن لم يستمر طويلا فقد جاء سقراط بفكرته القائلة ان المعرفة وحدها تقود إلى الخير وان الغريزة والعاطفة يجب ان تخضعا للعقل وهكذا وفقا لنيتشه بدأ الانحدار وماتت التراجيديا وولد الانسان الحديث ذلك الكائن العقلاني الباهت الذي فقد الاتصال بجذوره الديونيسية.
لكن نيتشه لم يبق وفيا لكل ما كتبه في مولد التراجيديا بعد سنوات عاد وانتقد كتابه وكتب مقدمة جديدة بعنوان محاولة في النقد الذاتي في هذه المقدمة ابدى بعض الندم على تأثره الكبير بفاغنر وشوبنهاور واعتبر ان كتابه كان شابا ومتحمسا اكثر من اللازم ومع ذلك لم يتراجع عن فكرته الأساسية الحياة بحاجة إلى الفن كي تكون محتملة والفن الحقيقي لا يمكن ان يكون مجرد زخرفة عقلانية بل يجب ان يحتوي على طاقة ديونيسية قادرة على زعزعة ثوابت الفكر والمنطق
اليوم بعد اكثر من قرن على رحيل نيتشه يبدو اننا لم نجد التوازن المفقود العالم الحديث لم يصبح اكثر انسجاما بل ازداد انحيازا للعقلانية الجافة من جهة او للعبث والفوضى غير الواعية من جهة اخرى لكن هل ماتت التراجيديا فعلا ام انها عادت باشكال جديدة.
اذا تأملنا الفنون الحديثة نجد ان الصراع بين الأبولوني والديونيسي لا يزال حاضرا في السينما يمكن ان نرى ذلك في افلام مثل Joker او Black Swan حيث تظهر شخصيات تحاول التحرر من النظام الصارم نحو حالة ديونيسية من الفوضى والجنون في الموسيقى نجد الفرق بين الموسيقى الكلاسيكية التي تقوم على التناسق والتوازن مقابل موسيقى Rock أو Metal التي تعكس طاقة متمردة حتى في الثقافة الرقمية يمكن التساؤل عما اذا كانت وسائل التواصل الاجتماعي تمثل انفجارا ديونيسيا من الفوضى والعواطف المتطرفة ام انها مجرد شكل جديد من السيطرة الأبولونية على العقول.
ما زال السؤال الذي طرحه نيتشه قائما هل يمكن للإنسان ان يجد توازنه من جديد هل يمكننا دمج النظام بالعاطفة والمنطق بالغريزة دون ان يطغى احدهما على الاخر ربما لم يعد ديونيسوس يرقص في شوارع اثينا القديمة لكنه بلا شك لا يزال يرقص في مكان ما ينتظر من يصغي اليه.
إلى اللقاء.