فن اللامبالاة:من الفضول إلى الإدراك

تخيل أنك تستيقظ كل صباح للعمل الذي تكرهه تقنع نفسك بأنه مؤقت وأن التغيير قادم لكنك في قرارة نفسك تعلم أنك عالق ومع ذلك تفضل التمسك بهذا الوهم المريح بدلا من مواجهة الحقيقة الموجعة أنك خائف من التغيير

هذه الحقيقة مؤلمة لأنها تضعنا وجها لوجه مع واقعنا للحظة نسترجع شريط حياتنا بسرعة لندرك كم مرة عشنا في وهم مريح بدلا من مواجهة الحقائق الصعبة لكن ما إن نقترب من إدراك ذلك حتى نعود أدراجنا إلى منطقة الراحة حيث السراب أجمل من الحقيقة وهنا يأتي كتاب فن اللامبالاة ليعيد ترتيب أفكارنا ويدفعنا لمواجهة ما نحاول الهروب منه

عندما قررت قراءة هذا الكتاب لم أكن أبحث عن دروس في الحياة بل كان الفضول هو دافعي الأول ظننته مجرد كتاب آخر في التنمية البشرية يكرر نصائح مألوفة عن التفكير الإيجابي والنجاح لكنني وجدت نفسي أمام تجربة مختلفة تماما مارك مانسون لا يحاول أن يجعلك تشعر بالرضا عن نفسك بل بالعكس يضعك في مواجهة مباشرة مع واقع الحياة كما هو دون تجميل أو تفاؤل زائف

العنوان نفسه يحمل مفارقة مثيرة اللامبالاة لا تعني عدم الاهتمام أو الهروب من المسؤولية بل هي اختيار واع لما يستحق اهتمامنا وما لا يستحقه في عالم مليء بالضغوط والمقارنات من السهل أن نغرق في القلق بشأن كل شيء لكن الكاتب يدعونا إلى أن نكون أكثر انتقائية في اهتماماتنا وأن نتقبل فكرة أن الحياة لن تكون مثالية أبدا

أتذكر موقفا شخصيا جعلني أعي تماما أهمية هذه الفكرة كنت دائم القلق بشأن نظرة الآخرين لي أخشى الفشل لأنني-ولحكمة لا يعلمها إلا ربّ العباد-كنت أعتبر الفشل نهاية العالم لكن عندما تأملت في كلام مانسون أدركت أنني كنت أستنزف طاقتي فيما لا طائل منه بدلا من ذلك تعلمت أن أختار معاركي بوعي وأركز على الأمور التي تضيف لي حقا بدلا من محاولة إرضاء الجميع

لو كان علي تلخيص التأثير الأكبر لهذا الكتاب فهو تغيير علاقتي مع الفشل والخوف من نظرة الآخرين أدركت أن السعادة ليست في تحقيق الكمال بل في التقبل الواعي لنواقص الحياة النجاح لا يعني تجنب الفشل بل القدرة على التعامل معه بذكاء كما أنني أصبحت أكثر وعيا بفكرة انتقاء المعاناة ليس الهدف أن تكون حياتك خالية من المشكلات بل أن تختار المشكلات التي تستحق جهدك

قرأت سابقا كتبا تتناول موضوعات مشابهة مثل “دع القلق وابدأ الحياة” لديل كارنيجي هذا الكتاب يقدم نصائح مفيدة لكنه يميل إلى الطابع التحفيزي ما يميز فن اللامبالاة هو صراحته القاسية مانسون لا يحاول أن يرضيك أو يمنحك حلولا وردية بل يخبرك أن الحياة ليست عادلة وأن تقبل ذلك قد يكون مفتاحا للراحة الحقيقية

لولا صديقي الأصيل علي حلني لما اطلعت على هذا الكتاب فقد أرشدني إلى تطبيق أبجد الذي أتاح لي الوصول إلى عناوين كنت أظنها بعيدة المنال ورغم امتناني لاكتشاف هذا التطبيق الذي منحني فرصة الاطلاع على الكثير مما فاتني إلا أنني ما زلت أفضل الكتب الورقية حيث لكل صفحة ملمسها ومع ذلك وجدت أبجد خير رفيق في رحلتي لاكتشاف المزيد وإن لم يستطع أن ينتزع مني ولعي بالحبر والورق

هذا الكتاب ليس مجرد قراءة عابرة بل تجربة جعلتني أعيد النظر في قناعات كنت أعتبرها مسلمات.

أقول قولي هذا وأخلص إلى أن جوهر فن اللامبالاة الحقيقي هو أن نتقبل الحياة بكل تناقضاتها نختار معاركنا بحكمة ونتوقف عن استنزاف طاقتنا فيما لا يستحق.السعادة ليست في السيطرة على كل شيء بل في إدراك أن ذلك ليس ضروريا أصلا.

إلى لقاء.

عبد الرحمن غوري

عبدالرحمن غوري باحث في الأدب والفلسفة
زر الذهاب إلى الأعلى