اللكمة التي أنهت صداقة العمر

في عالم الأدب كما في السياسة والحب قد تتحول أعظم الصداقات إلى خصومات لا رجعة فيها وهذا ما حدث بين العملاقين ماريو فارجاس يوسا وغابرييل غارسيا ماركيز عندما انتهت سنوات من الود والاحترام المتبادل بلكمة واحدة على أنف الأخير قلبت علاقة أدبية عظيمة إلى قطيعة دائمة.

قبل أن تتحول الصداقة إلى قطيعة كان ماركيز ويوسا يشكلان ثنائيا أدبيا فريدا في أمريكا اللاتينية تعرّفا في 1967 عندما كان كلاهما في أوج تألقه الأدبي حيث كان ماركيز قد نشر مئة عام من العزلة بينما كان يوسا قد حقق نجاحا كبيرا مع البيت الأخضر وزمن البطل منذ اللحظة الأولى جمعتهما رؤى أدبية مشتركة حول الواقعية السحرية وأهمية الرواية كأداة لفهم المجتمع والسياسة وسرعان ما تطورت العلاقة إلى صداقة وثيقة.

كانا يتبادلان الإعجاب والتقدير علنا بل إن يوسا كتب مقدمة لإحدى طبعات مئة عام من العزلة وصف فيها ماركيز بأنه “عبقري بموهبة فريدة” وفي المقابل كان ماركيز يرى في يوسا أحد أكثر الكتّاب موهبة في جيله لم تكن مجرد علاقة زمالة بل صداقة حقيقية امتدت إلى الحياة الشخصية حيث زار كل منهما منزل الآخر وشاركا في العديد من اللقاءات الأدبية والنقاشات السياسية.

لكن كما في كثير من العلاقات القوية كان هناك أيضا اختلافات فكرية وأيديولوجية بدأت تتضح مع مرور الوقت ومعها بدأت بذور التوتر تتسلل بصمت إلى علاقتهما حتى جاءت تلك اللكمة في 1976 لتقطع آخر خيط يربط بينهما وتحول صداقة العمر إلى صمت طويل لم ينكسر حتى رحيل ماركيز بعد أربعة عقود.

كان ذلك في 13 فبراير 1976 أثناء عرض سينمائي في مكسيكو سيتي دخل ماركيز إلى القاعة مبتسما ليجد صديقه القديم يوسا يتقدم نحوه ليسلم عليه كما اعتاد لكنه بدل المصافحة تلقى لكمة خاطفة جعلته يسقط أرضا متألما ونازفا وسط دهشة الحضور لم تكن تلك مجرد مشادة بين صديقين بل كانت نهاية درامية لعلاقة جمعت اثنين من أعمدة الواقعية السحرية في أمريكا اللاتينية.

الروايات حول أسباب الحادثة تعددت لكن القصة الأكثر تداولا تتعلق بسوء فهم شخصي بين الكاتبين كان يوسا قد هجر زوجته باتريشيا لبعض الوقت وفي غيابه وجدت الدعم والمواساة عند ماركيز وزوجته مرسيدس وعندما عادت إلى زوجها لاحقا ألقت بكلمات عابرة عن أن ماركيز كان معجبا بها ربما لتثير غيرته أو لتبرر بعض خياراتها كان ذلك كافيا لإشعال فتيل الغضب في قلب يوسا وعندما التقى ماركيز بعدها لم يمنحه فرصة الدفاع عن نفسه بل باغته باللكمة الشهيرة متهما إياه بالخيانة.

لكن هناك من يرى أن الخلاف بين الكاتبين لم يكن فقط بسبب امرأة بل كان انعكاسا لانقسام سياسي وفكري عميق بينهما ماركيز المعروف بميوله اليسارية ودعمه لكاسترو كان على نقيض يوسا الذي ابتعد تدريجيا عن اليسار ليصبح من أشد منتقديه السياسة كما هو الحال دائما كانت خلفية صاخبة لكل الخلافات الشخصية والفكرية بين الكاتبين.

أما ماركيز فقد استقبل الضربة بطريقته الخاصة في اليوم التالي ذهب إلى صديقه المصور رودريغو مويا وطلب منه التقاط صور لوجهه المتورم لكنه ظهر فيها مبتسما كمن يوثق لحظة عبثية في حياته أو ربما كمن يسخر من الضربة ومن صاحبها معا لم تنشر هذه الصور إلا بعد عقود مما زاد من غموض القصة ومنحها بعدا أسطوريا كما لو أنها مشهد من إحدى روايات ماركيز نفسها.

رغم محاولات الأصدقاء للصلح لم يتحدث الرجلان مجددا وعندما حصل كل منهما على جائزة نوبل ماركيز في 1982 ويوسا في 2010 لم يهنئ أحدهما الآخر وكأن تلك اللكمة لم تفصل بينهما جسديا فقط بل أدبيا وإنسانيا أيضا.

لكن تأثير القطيعة لم يتوقف عندهما وحدهما فقد انقسم الوسط الأدبي في أمريكا اللاتينية بين معسكرين أحدهما يميل إلى ماركيز والآخر إلى يوسا وأصبحت مقارنتهما تقليدا دائما في الصحافة الثقافية والنقد الأدبي بل إن البعض قرأ رواياتهما لاحقا وكأنها ردود مبطنة على بعضهما البعض.

في المقابل كان مؤاركيز أكثر تحفظا فلم يعلق على الحادثة علنا ولم يكتب عنها في مذكراته وكأنه قرر أن يتركها طي النسيان أما يوسا فقد تجنب الحديث عن ماركيز لسنوات طويلة لكنه بعد وفاة ماركيز في 2014 وصفه بأنه أحد أعظم الأدباء في التاريخ معترفا بأنه رغم الخلاف الشخصي لم تتغير رؤيته لقيمته الأدبية.

لم يكن أحدهما بحاجة للآخر فقد كتب كلاهما ما يكفي ليخلده التاريخ لكن فكرة أن هذين العبقريين كانا صديقين ذات يوم ثم انتهت علاقتهما بضربة واحدة تجعل القصة أكثر سحرا من أي من رواياتهما.

عبد الرحمن غوري

عبدالرحمن غوري باحث في الأدب والفلسفة
زر الذهاب إلى الأعلى