وسط صخب العالم الحديث وتعقيداته، عادت شخصيات عديدة تبحث عن المعنى والجوهر في حياة باتت تحكمها السطحية، وكان من أبرز هذه الشخصيات اللامنتمي كما رسمه الكاتب الإنجليزي كولن ولسن. لقد ألقى كتاب اللامنتمي ضوءا ساطعا على جانب من الإنسانية، مليئا بالاغتراب والتمرد، ليضع القارئ أمام شخصية تعيش على هامش النظام الاجتماعي، متماهية مع ذاتها وكأن العالم لا يعنيها. لكن السؤال الأعمق يظل: هل هو غريب عن العالم أم أن العالم هو الذي اغترب عنه.
يرسم ولسن صورة اللامنتمي كرمز للتمرد على القوالب الثابتة، شخص يرفض القبول بما يتبناه الآخرون من حياة سطحية وروتين ممل. ومع ذلك، لا تعني عزلته انسحابا من العالم بقدر ما هي اختيار واع للسعي نحو أعمق معان للحياة. فاللامنتمي يعيش كمن يرى ما لا يراه الآخرون، يتجنب الانسياق مع التيار، ويبحث عن طريقة لإعادة تشكيل الواقع وفق رؤيته.
هذا النوع من الشخصيات قد نصادفه في حياتنا اليومية دون أن نلتفت إليه. ربما يكون ذاك الشخص الذي يجلس وحيدا في زاوية مقهى بسيط، يحدق في الأفق بصمت وكأن ضجيج العالم لا يعنيه. وعندما تحاوره، تجد أنه ليس غريبا بقدر ما هو إنسان تجاوز ما نراه نحن. إنه الذي يطرح الأسئلة التي نخشى مواجهتها، ويتحدى ما يعتبره الآخرون مسلمات.
اللامنتمي كما وصفه ولسن ليس ضائعا أو تائها، بل هو حامل لأسئلة وجودية عميقة، يعيد عبرها ترتيب الواقع بعيدا عن القيود التقليدية. إنه لا يدعو إلى الانعزال بقدر ما يدعو إلى التعمق والتأمل. اللامنتمي يرفض السطحية، ويرى في الحياة فرصة لاكتشاف الجمال والمعنى المخفيين خلف الضوضاء اليومية.
اللامنتمي ليس مجرد كتاب، بل هو دعوة لكل من يشعر بثقل الروتين اليومي أن يغوص في أعماقه ويعيد تشكيل حياته بطريقته الخاصة. ولسن لا يصور اللامنتمي كشخص فاقد الاتجاه، بل كإنسان يمتلك شجاعة مواجهة الأسئلة الكبرى في الحياة، متمردا على القشور ومتشبثا بمعان أعمق.
يمكننا القول إن كولن ولسن تأثر في كتابه هذا بجو الفكر الوجودي الذي كان طاغيا في القرن العشرين، حيث ظهر شعور عارم بالاغتراب لدى الكثيرين نتيجة التحولات الاجتماعية والسياسية الكبرى التي شهدها العالم. عكس كتاب اللامنتمي هذه الروح بدقة، فهو يعبر عن تجربة تمرد إنسانية تتقاطع مع أعمال كتاب مثل سارتر وكافكا ودوستويفسكي، الذين تناولوا حالات الإنسان المغترب في مواجهة واقع لا يتناغم مع تطلعاته.
ولسن في رسمه للامنتتمي قدم شخصية تحمل امتدادا لتلك الروح التي نجدها في الأدب والفلسفة. شخصيات مثل راسكولينكوف في الجريمة والعقاب أو جريجور سامسا في المسخ تجسد جوانب مشابهة من الصراع الداخلي والبحث عن معنى، مما يجعل اللامنتمي صوتا معاصرا لذلك الشعور الإنساني العميق. ما يميز رؤية ولسن هو دعوته إلى تجاوز الاغتراب عبر التأمل واكتشاف الذات، بدلا من الاستسلام لليأس كما قد نرى في بعض الأعمال الأخرى.
ربما يحمل كل واحد منا شيئا من اللامنتمي داخله، ذاك الجزء الذي يدفعنا للبحث عن معنى يتجاوز السائد، معنى يجعل الحياة تستحق أن تعاش. كلما واجهنا أنفسنا أو توقفنا لنفكر في الغايات الكبرى وراء أفعالنا، فإننا نقترب من هذا النموذج الذي يتحداه ولسن ويعيد تعريفه كطاقة إيجابية ومتمردة على السطحية. قد يكون اللامنتمي جالسا في مقهى أو وحيدا على شاطئ البحر، لكنه في الحقيقة داخلنا جميعا، في تلك اللحظات التي نبحث فيها عن معنى مختلف وأعمق.
وفي الختام، لا يسعني سوى تقديم تحية اجلال للمترجم الكبير أنيس زكي حسن، الذي أتاح لي عبر ترجماته نافذة على عالم كولن ولسن وأعماله الفريدة. إنه لم يكتف بنقل النصوص، بل نقل معها روح الكتابة وعمقها، مما جعل القراءة تجربة تضيف الكثير إلى إدراكنا. قد يظل اللامنتمي كتابا يتردد صداه بين كل من يواجه تحديات البحث عن الذات والمعنى في عالم يميل إلى اختزال كل شيء في مظاهره السطحية.
إلى لقاء قريب