إستوقفني رجلاً طاعناً في السن أمام بوابة الجامعة الكاثوليكية في العاصمة الغينية كوناكري طالباً مني بطاقة الدخول التي لم أحضرها، فسألني ما الذي ستناقشه الندوة التي تودين حضورها؟ فقلت له تتحدث عن الرئيس “مامادي دومبويا” والطريق لتطوير الدولة، فقال لي بلغة المندنكا الإفريقية “يمشي الشاب أسرع من كبار السن، لكن كبار السن هم وحدهم من يعرفون الطريق، مامادي لن يصل لبر الأمان بعد حملة الإقالات التي شنها على رجالات الدولة الذي عملوا مع بعض القيادات السياسية السابقة”، إنتهى حديثي مع الرجل وحضرت الندوة وغادرت مبنى الجامعة ولم تغادرني كلمات مواطن قرأ مشهد بلاده من زواية لا أعرفها ولكني أصدقها.
رغم إستعداد كوناكري لإستضافة الإجتماعات التمهيدية لمشروع إنشاء قوة شرطة إقليمية في غرب إفريقيا بإشراف الإنتربول الشهر القادم، إلا أن كوناكري لم تبارح حالة الترقب السياسي التي إعترتها منذ أواخر فبراير الماضي حتى اليوم بعد تسرب معلومات إستخباراتية تفيد بتصاعد وتيرة الإتصالات بين المجلس العسكري الإنتقالي بقيادة “مامادي دومبويا” وبعض الأطراف الغربية “الولايات المتحدة، فرنسا” لدعم تمديد الفترة الإنتقالية التي من المقرر أن تنتهي نهاية العام الجاري إلى عام 2025، ولم تنتظر الرئاسة الغينية كثيراً حتى يضعها المكون الشعبي في موضع المساءلة، فجاء إعلان رئيس الوزراء الغيني “باه أوري” في مارس الجاري مؤكداً لما تم تسريبه من مبنى المخابرات العامة، وإن كانت المكاشفة السياسية التي أبدتها غينيا لشعبها حول تلك التسريبات غير معتادة لكوناكري وجوارها الإقليمي، إلا إن ذلك التعجب لن يجد له مكاناً بعد أن نعلم بأن الإطاحة بقائد الجيش الغيني “ساديبا كوليبالي” قد سبق ذلك بأشهر قليلة، وكان مقدمة لتصاعد حالة الخطر التي بات يستشعرها النظام السياسي القائم، وتبع ذلك حل كتيبة الأمن الرئاسي المسؤولة عن حماية الرئيس وإستبدالها بقوات متخصصة في مكافحة الإرهاب، في دلالة واضحة على تنبه النظام لحجم المخاطر التي تحيط برأسه، ناهيك عن تنامي موجة التكالب الدولي على موارد الدولة الغينية لإمتلاكها أكبر رواسب خام الحديد الغير مستغلة في العالم، وفي ظل هذه المتغيرات التي تحيط بالمشهد الغيني أرى أن أمام كوناكري ثلاث سيناريوهات:
– السيناريو الأول: إزاحة الرئيس “مامادي دومبويا”، والإبقاء على المجلس العسكري الإنتقالي، برئاسة قائد الجيش السابق “كوليبالي” أو أحد الداعمين لتوجهه السياسي، فقد كان أهم أسباب الخلاف بين “كوليبالي” والرئيس هو دعم الأول لمسار العودة للقانون الدستوري، ورفض تمديد الفترة الإنتقالية لعام 2025، وهذا التوجه يوافقه فيه بعض القادة العسكريين وشخصيات دبلوماسية غينية.
– السيناريو الثاني: تحالف أمني للإطاحة بالمجلس العسكري الإنتقالي وقيادته، وقد يكون التحالف بين “إسماعيل كيتا” رئيس المخابرات، والعقيد “موسى تيجبورو” اللذان تمت إقالتهما وسط رفض واسع من القيادات الأمنية.
– السيناريو الثالث: صعود أحد رموز المعارضة الساعية للإنضمام لتحالف الساحل الجديد أو ما يطلق عليه “ليبتاكو – غورما”، أو إستنساخ تجربته بإعتباره النموذج الأقرب للمزاج الشعبي والتطلعات المستقبلية في ظل تصاعد موجة الوعي السياسي بين الجموع الإفريقية، وهذا سيناريو قابل للإنضواء تحت حكم عسكري.
خوفاً من التحالفات الأمنية التي قد تنشأ بين كبار القادة في المؤسسات العسكرية، ومنعاً لوقوع أحد تلك السيناريوهات، وحصولاً على دعم الأطراف الغربية لتمديد الفترة الإنتقالية لعام 2025 أرى أن كوناكري لن يكون أمامها إلا تعزيز خط التواصل مع “جيرمو بايريت” مستشار الرئيس الفرنسي الأسبق “نيكولا ساركوزي” والذي تستعين به الدوائر الإستخباراتية الفرنسية في الملف الإفريقي، بالتعاون مع “ألاين ريتشارد” أهم قناة أمنية فرنسية عاملة في إفريقيا، للعمل على تطوير مستوى اللقاءات مع “إسماعيل باه” أهم الناشطين الغينين والقريب من المجلس الإنتقالي، وذلك لدوره السابق في إقناع الإدارة الفرنسية بلقاء وفد غيني للتباحث والتفاهم على بعض الملفات الأمنية، وستعمل “باريس” بالتعاون مع “واشنطن” لإحتواء الوضع الغيني في حال تدهوره “أمنياً”، خاصة أن السفارة الأمريكية في كوناكري إستضافت مسبقاً وفداً من أحزاب المعارضة الرئيسية في غينيا مثل “إتحاد القوى الديموقراطية، إتحاد القوى الجمهورية، تجمع الشعب الغيني” بحضور “لويس بليز أكابرو” سفير المجموعة الإقتصادية لدول غرب إفريقيا “الإيكواس” ووفد من الإتحاد الأوروبي ووفد فرنسي، في دلالة واضحة على عمق التنسيق الأمني بين الأطراف الغربية الساعية إلى تحجيم النفوذ الروسي والصيني الساعي إلى التمدد في منطقة الغرب الإفريقي، بعد حصول “بكين” على عقد تطوير منطقة “ترانسغينين” في غينيا مناصفة مع “واشنطن” و”باريس”، ويبقى موقف الأطراف الغربية مرهوناً بمدى قرب أحد الأطراف الغينية لرؤيتها المستقبلية في الغرب الإفريقي وجواره الإقليمي، وتأثيرها على المكون الشعبي طمعاً في الشرعية التي ستدعمها أمام المجتمع الدولي.
د. أمينة العريمي
باحثة إماراتية في الشأن الإفريقي
afrogulfrelations_21@hotmail.com