بات واضحا أن الحكومة الصومالية الحالية اختارت نهجا سياسيا أكثر تشددا لطالما تحاشى عنه أسلافها خوفا من ردود الأفعال وسوء العواقب، للقضاء على التمرد والفوضى السياسية في البلاد وفرض هيبة الدولة وتطبيق النظام والقانون، وبدأت تمارس أقصى درجات الحزم والحسم إزاء القضايا الداخلية والخارجية، وسياسة رد الصاع بصاعين ضد كل من تسول نفسه الوقوف أمامها وعرقلة مسيرها.
ويقول لسان حال الحكومة إن هذا النهج هو الطريق الأمثل نحو قطع دابر العناصر الثلاثة المهددة لكيان الدولة والوحدة الوطنية، القبلية، وتعدد مراكز القرار والتدخل الخارجي السلبي والتي كانت ولا تزال العقبة الكأداء أمام عودة الإستقرار في الصومال وايجاد حل لمشاكله السياسية والأمنية والاقتصادية. وترى أن أسلوب المهادنة، والتعايش مع المرض، والارتهان لعامل الوقت أمر أثبت فشله ولا جدوى من الإستمرار عليه وأنه ما هو الا شكل من أشكال الهروب عن المسؤولية وفقدان الثقة بالنفس، وبالتالي لا مناص من تحمل المسؤولية، ومواجهة الحقائق واختيار الصادم مع الخصم السياسي مهما بلغت التكاليف والأثمان.
لكن هذا النهج السياسي المتشدد أثار قلق العديد من الصوماليين وأعاد إلى الواجهة الجدل السياسي حول الاستبداد والنظام المركزي ومثالب تجميع السلطات في أيدي فئة قليلة تفعل ما تشاء وتستأثر حكم البلاد وخيراته وثرواته دون غيرها من أبناء الوطن، حيث حذر قطاع عريض من المجتمع الصومالي من خطورة هذا النهج الذي لا يمثل سوى الخطوة الأولى نحو عودة نظام الدكتاتورية الذي ثار الشعب ضده واستنساخ تجربة رؤساء دول الاقليم المجاورة للصومال الذين يتفردون الحكم في بلادهم بدواعي حفظ الوحدة الوطنية وحماية مكتسبات الشعب.
اتخذت حكومة الرئيس محمد عبد الله فرماجو خلال العامين الماضيين، قرارات سياسية داخلية وأخرى خارجية أثير الجدل حولها وتباينت الآراء إزاءها ما بين مؤيد وصفها بقرارات شجاعة تستحق الإشادة والمساندة لإعادة الاعتبار للسلطة الصومالية وتحصين هيبتها ومكانتها في العالم، وتوجيه رسالة واضحة لكل من يهمه الأمر داخليا وخارجيا مفادها أن الأمور قد ختلفت وأن الصومال لم تعد كما كانت تدنس سيادتها واستقلالها ويحكمها كل قاس ودان ويلغ إناؤها كل كلب مسعور وحكامها صامتون.
في حين رآها البعض الآخر قرارات انتحارية لا تحمد عقباها تنم عن مراهقة سياسية ونقص رهيب في المعلومات وعدم تقدير للأوضاع، وأفكارا وخيمة تفتقر إلى الحكمة ولا تتسم بالرصانة ولا يصلح عشبها ولا يستمرأ؛ لأنها لا تراعي التعقيدات الاجتماعية والنظام السياسي الهش في البلاد الذي لا يحتمل مزيدا من التصعيد وافتعال أزمات الشعب في غنى عنها.
داخليا، قررت الحكومة الاصطدام مع رئيس البرلمان السابق محمد عثمان جواري من خلال دعم نواب مؤيدين لها إتهموه بعرقلة مسيرة الحكومة وجهودها في ارساء قواعد العدالة وتحسين نظام الحكم، وتمكنت من ازاحة جواري واخراجه من المشهد السياسي دون عناء كبير ما مهد الطريق أمام مواصلة ضغوطها الشديد على رؤساء الإدارات الإخرى لعزلهم وانتخاب رؤساء آخرين أكثر انسجامها مع سياساتها الداخلية والخارجية، فقد نجحت الإختبار الأول واسقطت أعتى هؤلاء الرئيس وأكثرهم تأثيرا في الساحة السياسية الصومالية ، حاكم ولاية جنوب غرب الصومال السابق شريف حسن في مشهد انتخابي اثار انتقادات كبيرة داخليا وخارجيا، وهي تعد حاليا العدة وتواصل الليل بالنهار من أجل اسقاط رؤساء الولايات الأخرى بونت لاند وجوبالاند وغلمدغ في الانتخابات والجميع يحبس أنفاسه ليرى نتائج الانتخابات الرئاسية في بونت لاند المزمع اجراؤها يوم غد الثلاثاء.
وفيما يتعلق بالأوضاع الداخلية، لم تترد الحكومة كذلك من تضيق الخناق على المعارضين السياسيين في العاصمة مقديشو ومنعهم من عرقلة خططها واستراتيجياتها في شتى المجالات، وحددت تحركاتهم عبر حظرهم من تنظيم حفلات ولقاءات جماهيرية في فنادق العاصمة في محاولة لتقليل تأثيرهم في المشهد السياسي في البلاد.
أما القرارات التي اتخذتها الحكومة لتحصيين جبهتا الخارجية لم تكن أقل إثارة واندهاشا من قراراتها الداخلية، وفاجأت الجميع بتسلم المعارض الصومالي -الإثيوبي عبد الكريم قلب طغح إلى السلطات الإثيوبية في خطوة هي الأولى من نوعها في تاريخ العلاقة الصومالية- الإثيوبية، ورفض تأييدها لموقف أصداقاء الصومال التقليدين ، المملكة العربية السعودية ، والإمارات العربية المتحدة، وجمهورية مصر العربية، إزاء أزمة دولة قطر، وتوتير علاقاتها مع دولة الإمارات بعد احتجازها طائرة مدنية خاصة مسجلة في دولة الإمارات في شهر أبريل الماضي بمطار مقديشو الدولي، وعلى متنها 47 شخصا من القوات الإماراتية، والقيام بالاستيلاء على المبالغ المالية المخصصة لدعم الجيش الصومالي والمتدربين تحت تهديد السلاح وتطاول قواتها الأمنية على بعض أفراد قوات الواجب الإماراتية، بالإضافة إلى اعادة علاقاتها مع اريتريا ومطالبة رفع العقوبات عنها دون التنسيق مع جمهورية جيبوتي التي تحتل اريتريا جزءا من أراضيها.
هذه النحاجات التي حققتها الحكومة في كل هذه الملفات، شجعتها إلى المضي قدما في سياسة الإصطدام مع الجميع وهذه المرة كانت مع الأمم المتحدة. وفي سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الدبلوماسية الصومالية اعتبرت الحكومة مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى الصومال نيكولاس هايسوم “شخصا غير مرغوب فيه ولا يمكن الاستمرار في العمل بالبلاد”، متهمة إياه بالقيام بتصرفات لا تليق وتعد تدخلا سافرا في الشؤون الداخلية الصومالية. وجاءت هذه الخطوة اثر توجيه هيسوم رسالة شديدة اللهجة إلى روزارة الأمن الصومالية يطلبها بتوضيحات حول ملابسات قضية المديين الذين قتلوا في الأحداث الدامية التي شهدتها مدينة بيدوة في شهر ديسمبر الماضي -التي اعتبرها انتهاكا لحقوق الإنسان- اثر اعتقال القيادي السابق في حركة الشباب مختار روبو أبو منصور. فبدلا من تقديم الحكومة مزيدا من التفاصيل على ما حدث ، فاجأت الجميع بطرد المبعوث الأممي من البلاد واعتباره شخصا غير مرغوب.
صحيح أن هذا القرار حظى بتأيد قطاع كبير من الشعب الصومالي الذي رأى أنه حق طبيعي للدول ذات السيادة تكفلها القوانين والمعاهدات الدولية ومؤشر على استعادة الصومال قرارها السياسي وقدرتها على الحد من التصرفات التي تمس سيادة واستقلال البلاد، تجوج الحرة ولاتأكل ثدييها. لكن من يمعن النظر في حيثيات القرار ويدرس بتأن العواقت التي قد تترتب منه، يدرك تماما أن الأمور ليست بهذه البساطة وأن مثل هذه القضايا حتى في الدول الكبرى ناهيك عن الصومال الغارق في أوحال الحرب لا يتم معاملتها بقرارات انفعالية، بل تحتاج إلى الاتزان وبعد النظر وممارسة سياسية ضبط النفس، وتقديم المصالح المستقبلية على المصالح الآنية.
وفيما يبدو فالحكومة ربما بنت قرارها على المعطيات السائدة، مثل أن الأوضاع الأمنية في الصومال لا يحتمل مزيدا من الضغوط الدولية، ووجود دول مؤيدة لها في المحافل الدولية بالإضافة إلى انشغال العالم بقضايا أخرى أكثر أهمية من الصومال غير أن الجانب المخفي من القضية هو أن القوى الكبرى تمهل ولا تهمل وتتمتع بقدرة كبيرة على ضبط النفس والاستدراج “العدو” وأن الجميع يعرف كيف تسبب قرار طرد العسكرين الروس من الأراضي الصومالية في هزيمة حرب 77 وسقوط الدولة عام 1991، وبالتالي لا يبدو أن قرار طرد هايسوم لن يمر بدون رد من الأمم المتحدة رغم قبولها تعيين مبعوث جديد لها إلى الصومال وهي ربما تحتفظ ردها في الوقت المناسب والدليل على ذلك أن مجلس الأمن عبر عن أسفه لما حدث وأعلن إنّ عام 2019 سيكون “عاما حاسما بالنسبة إلى الصومال”، داعيا قادة البلاد إلى “العمل معا لدفع الإصلاحات السياسيّة والأمنيّة قدما” وهذه الجمل تحمل في مطيتها دلائل ومعاني توحي بأن الحكومة الصومالية الحالية ستواجه فترة صعبة خلال هذا العام، وأن هناك احتمال بصدور قرارات انتقامية من الأمم المتحدة وبعض الدول الأعضاء في مجلس الأمن.
وأخيرا الا ينبغى ألا تغتر الحكومة بطول نفس القوى التي تواجهها والتكتيكات السياسية التي تتبنى هذه القوى والا تهرع بإندفاع نحو المصيدة والحبائل التي وضعت لها بإحكام وبعناية فائقة.