باعتبارهما من أهل الدار، أو الديار السودانية، يجلس رئيس جنوب السودان سيلفا كير، ونائبه السابق ريك مشار الآن في الخرطوم، لحل المشكلات العالقة بينهما، وإحلال السلام في جنوب السودان.
وقال الدكتور الدرديري محمد أحمد، وزير خارجية السودان «الأصلي»: إن المباحثات بين الطرفين «كير ومشار» ستمتد لأسبوعين!
والحق أنني تمنَّيتُ أن تمتد لشهرين كاملين، يتجوَّلان خلالهما في الخرطوم التي عرفاها وخبراها وخدما فيها.. وما المانع لعلهما يتفقان من جديد على شكل من أشكال الوحدة أو الفيدرالية، ليس بينهما وبين بعضهما، وإنما بينهما وبين السودان الأصيل!
كنت قد سمعت في بداية رحلاتي المتوالية للقرن الإفريقي الكبير من سيلفا كير وريك مشار وجون قرنق ورفاقهم وحوارييهم، من أمثال ياسر عرمان- ما يفيد بأن «الوحدة» شر مستطير، وأن الانفصال هو السلام وهو الوئام وهو التنمية وهو الأمان!
والذي حدث أنه منذ انفصل الجنوب عن السودان ما عرف الناس حتى الآن سلامًا ولا وئامًا ولا تنميةً ولا أمانًا!
أسترجع هنا من الوجوه التي علقت بالذاكرة، وجه المهندسة أنجلينا تينج، وزيرة الدولة السودانية لشؤون الطاقة قبل الانفصال، والتي راحت تشرح لي أهمية التكامل والوحدة قبل أن تُفاجئني بأنها زوجة ريك مشار!
قريبًا من ذلك، تاريخيًّا، وجغرافيًّا، وسياسيًّا، واجتماعيًّا، مع الفارق في مسألة «الدين» باتت كلمة «الوحدة» بمثابة جريمة كبرى وشر مستطير في «أرض الصومال»، ذلك الجزء العربي الجميل من الصومال الأصيل؛ حيث قضت المحكمة بسجن الشاعرة الشابة «نعيمة قوراني»؛ بسبب دعوتها للوحدة والاندماج في بقية أقاليم الصومال!
وجاء في حيثيات الحكم، أن نعيمة ألقت قصيدة تدعو فيها إلى الوحدة على الملأ!
والواقع أن خبر سجن شاعرة صومالية تُنادي بوحدة صومالية، لا يدعو أبدًا للسخرية، بقدر ما يدعو للتأمُّل والتألُّم والخوف أيضًا!
صحيح أن نعيمة عبَّرت في قصيدتها عن حسٍّ وطني نبيل، لكن ثمة فتيات صوماليات غيرها، بتن يكرهن كلمة «وحدة» من هول ما سمعنه عما جرى لآبائهن وأجدادهن في هرجيسة وبربرة، من حُكَّام في مقديشو قبل عشرات الأعوام.
الأكثر وجعًا وإيلامًا في الحالة الصومالية، مقارنةًً بالحالة السودانية، أن حمى الانفصال تفشَّت في جسد واحد يتحدث بلغة واحدة، ويدين بدين واحد، وينتمي إلى أصل عرقي واحد.. وبالمجمل في وطن مُهيَّأ لأن يكون من أجمل وأقوى الأوطان.
قريبًا من ذلك أيضًا، وبمناسبة الحديث عن «الانفصال» باعتباره ضرورة حتمية عند البعض، وعن «الوحدة» باعتبارها يقينًا لدى البعض الآخر، قال رئيس الوزراء الإثيوبي أبوأحمد، فور نجاته من محاولة الاغتيال التي جرت له قبل أيام: «إنها محاولة غير ناجحة لقوى لا تريد إثيوبيا متّحدة.. وإنه هجوم رخيص وغير مقبول.. وإن الحب هو الذي يفوز دائمًا.. وإن قتل الآخرين هو الهزيمة بالنسبة لأولئك الذين حاولوا تقسيمنا.. ولن ينجحوا».
والحقيقة أبا أحمد أن القوى التي تتحدَّث عنها، والتي لا تريد إثيوبيا متحدة.. هي نفسها التي لا تريد الصومال قويًّا ومتحدًا.. ولا السودان قويًّا ومتحدًا.. ولا القرن الإفريقي الكبير كله قويًّا ومتحدًا!!
صحيح أن العوامل الداخلية التي تدفع الناس للمطالبة بالانفصال أكثر من أن تعد «إهمالًا وفشلًا واضطهادًا وتمييزًا وتفرقةً وظلمًا وفسادًا»، لكن عوامل دفع الناس للوحدة والتماسك، تظل هي الأكثر وهي الأفيد وهي الأبقى.
هكذا اكتشفتُ في عام 2018 وبعد مرور ثلاثين عامًا على جولاتي في القرن الإفريقي أنه ما زال مطمعًا، وأنه سيظل مستهدفًا، وأن علينا بصفتنا عربًا مسؤولية كبرى في الدعم والمساعدة.. ليس من باب العطف ولا حتى النخوة، وصلة الرحم، وإنما من باب الدفاع عن النفس!!
المصدر- صحيفة المدينة