يتساءل كثير من الناس عن وجود بعض القواعد العسكرية الدولية في جيبوتي وأهميتها وأغراضها…
وهذا بدوره يقودنا للنظر فيما تتميز به جمهورية جيبوتي من موقع جغرافي فريد على البحر الأحمر يربط طرق العالم وقاراته الكبرى، فإطلالة جيبوتي على مضيق باب المندب ذي الأهمية الاستراتيجية الاقتصادية والسياسية الكبيرة، جعلتها دولة محورية في الجهود المبذولة للحفاظ على الأمن والاستقرار الدوليين من خلال التنسيق والتعاون مع القوى الكبرى لحماية الملاحة البحرية ومكافحة الإرهاب ومواجهة التحديات الأمنية التي تؤرق المنطقة والعالم بأسره.
وبسبب ما تنعم به جيبوتي من أمن واستقرار رغم وقوعها في محيط مشتعل بالأزمات والصراعات، يطلق عليها كثيرون «واحة السلام»، وذلك لما عرفت به من دبلوماسية حكيمة وتوازن سياسي محلياً وإقليمياً.
وعلى أثر ذلك، فالقواعد العسكرية الدولية التي وجدت أخيراً في جيبوتي موجهة في المقام الأول لمكافحة الإرهاب والقرصنة البحرية وحماية الملاحة الدولية في هذا الموقع الاستراتيجي المهم من العالم.
وبنظرة على تلك القواعد الدولية، سنجد أن القاعدة الفرنسية أقدمها، وهي موجودة منذ ما قبل استقلال جيبوتي، وذلك راجع إلى العلاقات القديمة بين البلدين، كما أن وجود هذه القاعدة بعد استقلال جيبوتي يندرج في إطار الحفاظ على التوازن الإقليمي الذي كان قائماً في عهد الحرب الباردة، واستمرت بعد ذلك وفق المصلحة المشتركة بين البلدين.
ثم تأتي بعدها القاعدة الأميركية التي أنشئت بناء على اتفاقية للتعاون في مجال مكافحة الإرهاب والقرصنة وحفظ الأمن والاستقرار في المنطقة، عقب هجمات سبتمبر (أيلول) 2001م، ثم جُددت في عام 2014 لعشر سنوات إضافية.
ومنذ عام 2011 تتمركز أيضاً قوة رمزية تابعة لقوات الدفاع الذاتي اليابانية. كما أنشئت أخيراً في جيبوتي قاعدة بحرية صينية شيدتها بكين من أجل الاستخدامات اللوجيستية وحماية استثماراتها واقتصاداتها التي تمر عبر هذه المنطقة الحيوية.
يضاف إلى ذلك استخدامات القوات الألمانية والإسبانية والإيطالية للموانئ الجيبوتية دعماً لوجيستياً لبواخرها العسكرية لمكافحة القرصنة في المنطقة.
وكما سبق ذكره في أكثر من مناسبة، فإن الوجود العسكري الأجنبي في جيبوتي قائم وفق اتفاقيات ثنائية مبرمة محددة بفترات زمنية ومحكوم نشاطها وفق ما تمليه مصالح جيبوتي السياسية والأمنية، وما يتطلبه الواجب الدولي الملقى على كاهل جيبوتي للإسهام في حماية الأمن والاستقرار العالمي في المنطقة بمراقبة ومكافحة الإرهاب والقرصنة من خلال منح المجتمع الدولي هذه التسهيلات اللوجيستية.
ولا يفوتني في هذا المقام أن أشيد بالعلاقات الجيبوتية – السعودية التي تزداد قوة ومتانة يوماً تلو آخر في المجالات السياسية والعسكرية والأمنية، نتيجة للتوافق السياسي وتناغم الرؤى بين الرئيس إسماعيل عمر جيله والملك سلمان بن عبد العزيز، وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ما يصب في حماية مصالح الدول العربية المشتركة في هذه المنطقة الحيوية التي تعتبر عربية بامتياز.
وتجدر الإشارة إلى أن علاقات جيبوتي مع المملكة ليست وليدة اليوم، وإنما تمتد بامتداد التاريخ ولما قبل استقلال جيبوتي، لتتعزز وتتطور بشكل مطرد شاملة التعاون في مختلف المجالات التعليمية والثقافية والاقتصادية والتنموية أيضاً.
ومن شواهد التناغم في الرؤى السياسية بين البلدين الشقيقين، أن كانت جيبوتي سباقة في تأييد الشرعية اليمنية فور خروج الرئيس هادي من صنعاء إلى عدن عقب حدوث الانقلاب على مؤسسات الدولة وحتى قبل انطلاق عاصفة الحزم، حيث حمل السفير الجيبوتي في صنعاء حينذاك خطاباً من الرئيس إسماعيل عمر جيله إلى الرئيس هادي يؤكد له فيه الوقوف المبدئي لجيبوتي مع الشرعية ضد الانقلاب الحوثي.
كما لبت جيبوتي بعد ذلك نداء استغاثة اليمن الشقيق بانضمامها إلى تحالف دعم الشرعية اليمنية الذي تقوده المملكة، إضافة إلى أن جمهورية جيبوتي عضو في التحالف الإسلامي العسكري لمكافحة الإرهاب الذي تشكل في 15 ديسمبر (كانون الأول) 2015 بقيادة المملكة العربية السعودية.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن علاقة جيبوتي مع بقية دول الخليج العربية تعتبر نموذجية ومميزة، ما يجعل منها عملياً جزءاً من منظومتهم الاستراتيجية في منطقة كانت – وما زالت – حبلى بتطورات سياسية وعسكرية وأمنية متسارعة ومتلاحقة تهدد الأمن والمصالح المشتركة، وعلى هذا الأساس، كان قطع جيبوتي العلاقات الدبلوماسية بإيران بعد حادثة الاعتداء على السفارة السعودية في طهران والقنصلية في مشهد.
وانطلاقاً مما سبق، يمكن القول إن الأهمية الجيوسياسية لموقع جيبوتي الجغرافي انعكست على علاقاتها مع مختلف القوى العالمية والإقليمية، وقد نجحت على الصعيد الدبلوماسي في بناء دولة عصرية قادرة على التأقلم مع المتغيرات والمستجدات الإقليمية والدولية الراهنة منفتحة على العالم، تمارس علاقاتها الخارجية مع الدول الشقيقة والصديقة من منطلق الاحترام المتبادل والتفاهم بين الشعوب، ومن ثمّ إرساء السلام في العالم، وقد كان لها دور في السلام والمصالحة في الصومال مع تميز العلاقات السياسية والاقتصادية بالجارة الكبرى إثيوبيا، واستضافة العاصمة جيبوتي مقر منظمة دول شرق أفريقيا (IGAD)، التي تضم بالإضافة إلى جيبوتي كلاً من الصومال، وإثيوبيا، وكينيا، وأوغندا، والسودان، وجنوب السودان، بالإضافة إلى إريتريا المجمدة عضويتها حالياً بسبب نزاعاتها مع عدد من دول الجوار.
كما حققت جمهورية جيبوتي إصلاحات ديمقراطية تجلت في تنظيم انتخابات السلطة المحلية ومجالس المحافظات والمجلس التشريعي، وقيام مؤتمرات الحوار لتكون نهجاً يحتذى به في الحفاظ على الوئام بين أبناء الشعب الجيبوتي، علماً أن المعارضة ممثلة في البرلمان، كما أن المرأة تمثل 25 في المائة من أعضاء مجلس النواب.
وشمل الحراك التطويري الذي تشهده جيبوتي في عصرها الراهن، المجال التعليمي بشقيه العام والعالي، والقطاع الصحي، وقطاعات الزراعة والسياحة واستغلال الثروة الجوفية والمعادن، وأيضاً الثروة السمكية، وتطوير القوات المسلحة عدداً وعدة لتكون على أسس علمية حديثة.
وعلى صعيد تطوير وسائل النقل والمواصلات، فقد تم تطوير خط السكك الحديدية بين جيبوتي وإثيوبيا. كما تم تحقيق تقدم هائل في الموانئ من حيث الكم والكيف، فمن ميناء واحد في العاصمة جيبوتي إلى عدة موانئ؛ أحدها للحاويات، والآخر نفطي، وثالث متعدد الأغراض. يضاف إلى ذلك ميناء محافظة تاجورا، وميناء بحيرة عسل، والميناء النفطي في دميرجوج المتاخم للحدود مع الصومال، وهناك ميناء سينشأ قريباً ليكون مخصصاً لتصدير المواشي من دول القرن الأفريقي.
وجدير بالذكر أن جيبوتي تضم في الوقت الراهن المنطقة الصناعية والحرة الأضخم في شرق أفريقيا.
والخلاصة أن كل المعطيات السابقة أصبحت تشكل بالنسبة لجيبوتي رأسمال مهماً يجعل التميز الاستراتيجي الجغرافي مقترناً بسياسة متوازنة وحكيمة وحليفة للقوى الأهم في المنطقة كالمملكة العربية السعودية، وكذلك للقوى الأهم في العالم كفرنسا والولايات المتحدة والصين وغيرها، فجيبوتي اليوم بمقاييس الدبلوماسية الدولية لم تعد البلد الصغير حجماً وسكاناً، بل البلد الكبير إدارة وسياسة وعلاقات سليمة.
المصدر- جريدة الشرق الأوسط