ترتبط الصومال بكل من إثيوبيا ومصر بروابط غاية في العمق والأهمية، بما يجعل تطورات العلاقات بين البلدين محل اهتمام صومالي بالغ وحثيث، لكون مخرجات تلك العلاقات عاملًا مؤثرًا في الداخل الصومالي، تأثيرًا لا يمكن إغفاله، وقد تكون الأوضاع التي تعايشها الصومال طوال ربع القرن الماضي، داعيًا آخر لضرورة انتشار وعي سياسي وشعبي، المتغيرات التي استجدت إن على الصعيد الداخلي أو موقع الصومال بين دول القرن الإفريقي والقارة الإفريقية والوطن العربي والعالم الإسلامي، وبناءًا على تحديد الصوماليين موقعهم ذاك، فإنّه من المهم تقييم الموقف الصومالي مما يجري على أرضهم ومن حولهم، تقييمًا منطقيًا وواقعيًا، يسمح لهم بتجنّب سلبيات الأجندات الأجنبية التي تستهدف أمنهم وحقوقهم ومصالحهم، بل وتطويعها بالصورة التي تمكّنهم من الاستفادة من مجريات التنافس والصراعات التي يمور بها العالم، ومن ذلك تقييم الصوماليين لعلاقتهم بكلّ من مصر وإثيوبيا، وحساب ما قد يكون لهم أو عليهم في ظل ما يبرز ويخبوا من توترات بين البلدين حول ملف مياه النيل وعلى رأس ذلك مستجدات مشروع “سد النهضة”.
العلاقات الصومالية المصرية:
جدّة تجربة الدولة الصومالية المستقلة سنة 1960م، كانت مسببًا لقلة خبرة القادة السياسيين في عهد الجمهورية الأولى “1960-1969″، ثم الدخول في العهد الدكتاتوري “1969-1991″، وقد أدّى ذلك إلى اتخاذ قرارات سياسية غاية في الخطورة، أوقعت البلاد في مآزق حقيقية على كل الصعد، نتيجة لإغفال الطبقة السياسية الحاكمة للبلاد، لنقاط أساسية في تنظيم علاقة الصومال بما حولهم، على مدى العقود الثلاثة الأولى من عمر الدولة، فإنّه من الضروري إدراك حقائق الأرض لدى التعامل مع مستجدات الأحداث المحلية والإقليمية والقارّية، فعلى الرغم من العلاقات الصومالية المصرية المميزة التي قادت لانضمام الصومال لجامعة الدول العربية، فإن الانكماش المستمر لقدرة مصر على لعب دور يتساوى مع حجمها، استمر بدءًا بعهد محمد أنور السادات، وبلغ حدًا خطيرًا في فترة حكم الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك، كما أن التسربيات التي خرجت من اجتماعات الرئيس المعزول محمد مرسي العيّاط، زادت الطين ببلًا فيما يخص نظرة النخب المصرية لمن حولهم من دول الجوار عمومًا، والاستخفاف البالغ بدول جنوب الصحراء الكبرى من ضمن ذلك دول القرن الإفريقي.
ومع توقيع مصر لاتفاقية “كامب ديفيد” ومقاطعتها عربيًا، خسرت مصر دورها القيادي في منظمة جامعة الدول العربية، وإن ساهمت الصومال حينها في كسر طوق الحصار العربي عنها، إلّا أن مصر لم تستعد قيادتها تلك وغرقت في أزمات منشؤها الفساد المالي، وغياب الأهداف الاسترتيجية نتيجة للتخلي عن القضية الفلسطينية بالاتفاق المنفرد مع إسرائيل، وعليه فقد انهى المصريون بأنفسهم الدور المصري القيادي في الجامعة العربية، التي كانت العامل الرئيسي في تنسيق المواقف بين الصومال ومصر، خاصة وأنّه بدا جليًا للمراقب الصومالي خلال الأزمة الصومالية، أن الاتفاقات الثنائية بين الصوماليين وأطراف عربية منفردة، غدا الطريق الأقصر لتحقيق نتائج ملموسة، ناهيك عن صراع النخب المثقفة المصرية حول موقفها السياسي من الحكم، والصورة المنقولة ـ بناءًا على ذلك ـ إعلاميًا عن مصر ، تلك الصورة التي رسّخت موقفًا شعبيًا صوماليًا مناوئًا للحكم المصري الحالي، بما يؤشّر بجلاء إلى أنه لن يكون لمصر أي قدرة على تقديم شيء يُذكر، قد يساهم في تسريع استعادة الدولة الصومالية قدرتها على إعادة بناء مؤسساتها.
العلاقات الصومالية الإثيوبية:
الصومال وإثيوبيا بلدان متجاوران يتشاركان حدودًا برية بطول 1640 كيلومترًا، ويشكّل العنصر الصومالي فيها ارتبطت الذاكرة الصومالية بقرون صراع العناصر الكوشيتية “الصومالية والعفرية والأورومية” مع الممالك الحبشية، إلّا أنّ دخول عناصر “أورومية” في منظومة الحكم الحبشي في “قوندر”، عبر اعتناقها الديانة المسيحية، رسّخ من تحوّل الصراع إلى صراع ديني ثقافي، مركزاه الإسلام والثقافة الكوشيتية “الصومالية-العفرية-الأورومية الشعبية” من جهة، والمسيحية والثقافة الحبشية من جهة أخرى، وقد يكون استثمار النظم الحاكمة ضمن كلى البلدين، في التأكيد على الفروقات والاختلافات، والاستمرار في تأجيج الدعوات القديمة بحتمية الإبادة المتبادلة، كل ذلك خلق حالة متجذّرة من العداء، بحيث يكاد يترادف اعتناق أحد الدينيين وقبول إحدى الثقافتين بكراهية معتنقي الديانة الأخرى الناطقين بُلُغاتها، وهو ما آن له أن ينتهي!
وعلى مدى خمسة قرون ما بين القرن السادس عشر والقرن العشرين، شُنَّتْ الحملات العسكرية المتبادلة، والاجتياحات والمعارك متناسبًا ذلك مع درجة التنافس الاقتصادي والدعوي الديني بين الطرفين، ومرتبطًا مع طموح الحكّام لدى الممالك والسلطنات والإمارات والسلالات الحكامة المتعاقبة على أقاليم القرن الإفريقي، ومع توسّع مملكة الحبشة لتضم قوميات وشعوب وثقافات أخي أخرى، كالأقاليم الكوشيتية والأوموتية والنيلية، إضافة للأحباش الساميين، وما حظيت به المملكة من اعتراف وتقدير من الدول الاوروبية في العهد الاستعماري، مؤديًا إلى منحها وضعًا خاصًا يتجاوب مع خصوصياتها في نظر تلك الدول العظمى، برزت إلى الوجود مملكة “إثيوبيا” في عهد “هيلاسيلاسي”، ليكون ضمن ما ضُمَّ إليها إقليم صومالي شاسع، سُمِّيَ بـ”الصومال الغربي” مكونًا من أقليمي “هَوْد وأوغادين”، وليغلب عليه اسم “إقليم أوغادين”.
علاقة الصومال بملف مياه الأنهار:
شاءت العناية الإلاهية أن لا يمر أي من روافد النيل في الصومال، رغم مجاورته لدولتين من دول المنبع “إثيوبيا” و”كينيا”، إنّما لم يغب ملف مياه الأنهار عن علاقات الصومال بدول الجوار، فالمحتل البريطاني لكينيا كان قد حدد الإقليم الصومالي فيها بإحدى ضفتي نهر “تانا”، ولازالت إثيوبيا منبعًا لنهري “جوبا” و”شبيلي”، حيث يعاني الأخير شُحًا كبيرًا يرجعه البعض لبناء إثيوبيا السدود عليها والمبالغة في استنفاده، دون مراعاة لظروف موجة الجفاف الأخيرة، وتأثيرها على منسوبه قبل مغادرته الإقليم الصومالي في إثيوبيا ودخوله حدود الجمهورية الصومالية.
إلّا أن استقلال كينيا وإلحاق الإقليم الصومالي NFD إليها عنوة، أغلق ملف مسألة نهر “تانا”، وأما بخصوص نهري “جوبا” و”شبيلي” فلازال الصومال بانتظار انتظام عقد حكوماته الإقليمية تحت ظل النظام الفيدرالي، بحيث تستعيد الدولة سيادتها الشرعية على كامل أرضها، وتنتهي من ملف حركة الشباب المجاهدين المتطرفة، وتثبّت الأمن وتبدأ مشاريع البنية التحتية التي تعيد ربط أطراف البلاد ببعضها، وحينها فقط يمكن الالتفات إلى المسائل الخاصة بالصومال والعالقة مع دول الجوار، وحتى ذلك الحين يبقى من الضروري الموازنة.
مسألة سد النهضة:
على مدى عقود ترسّخت في أذهان الصوماليين أن مصر حليفهم الأهم، وقد تمت ترجمة ذلك في المشاركة الصومالية في حرب أكتوبر، بخريجي أولى دفعات دورة المدفعية التي تم تقديمها للصومال من قبل الاتحاد السوفييتي حينها، كما أنّ الموقف الصومالي الممتنع عن الانضمام إلى المقاطعة العربية إثر اتفاقية “كامب ديفيد”، كان دليلًا واضحًا على أن الوقوف بالمستطاع مع الحليف المصري أمر مبدئي، إلّا أن التغيّر الأوضاع في القرن منذ سقوط النظام الدكتاتوري سنة 1991م، غيّر من حسابات الواقع السياسي والأمني في الصومال مؤديًا إلى خيارات أكثر واقعية، وأشد ارتباطًا بغياب الدولة المركزية، وهشاشة الكيانات السياسية المهيمنة على الأرض، وعجز الدولة الفيدرالية عن بسط سيطرتها على كامل التراب الوطني.
وقد يكون توقيع الرئيس عبدالفتاح السيسى والرئيس السودانى عمر البشير ورئيس الوزراء الإثيوبى هايله مريم ديساليغنه، «اتفاق إعلان المبادئ» حول سد النهضة الإثيوبى في مارس 2015م في العصمة السودانية الخرطوم، مخرجًا مهمًا من الحالة الخطيرة التي كانت ستدخلها المنطقة في حال تصاعد الخلاف، وما قد يؤدي إليه من تأجيج للصراعات في القرن الإفريقي، وهو ما ضمن عدم وجود ما قد يؤدي إلى اتخاذ الخطاب الرسمي الصومالي خطًا، يخرج عن الموقف الرئيس الصومالي المعلن عن تأييده لحقّ كل دول المنطقة ومن ضمنها إثيوبيا القيام بما من شأنه تحقيق حاجتها من التقدم، دون مساس بحقوق من هو سواها، وذلك بُعَيْد التسريب الشهير للاجتماع الذي تم بحضور الرئيس محمد مرسي العيّاط حول سد النهضة في يونيو 2013م، والذي تم نقله على الهواء مباشرة ونمّ عن احتقار الطبقة السياسية والفكرية المصرية لمجمل شعوب ومكونات الدول الإفريقية جنوب الصحراء الكبرى، خاصة القاطنين في القرن الإفريقي!
الخلاصة:
إن تراجع التأثير المصري ضمن منظومة الجامعة العربية، وتعاملها غير الموفّق مع موقعها من القارة الإفريقية، والوضع الاقتصاددي المتردي الذي تنحدر فيه، أدّى كل ذلك لانكماش دورها مما أثّر في مكانتها من حيث حسابات التفكير الاستراتيجي، مما لا يدع أمام الطبقة السياسية الصومالية، مهما كان محلها من الحالة السياسية في البلاد، مما لا يدع لها مجالًّا للخروج عن القناعة التي فرضها الواقع الجغرافي والتاريخي للبلاد بأهمية حسن العلاقة مع الجارة إثيوبيا، وقد يكون مما رسّخ ذلك، التدخل الإثيوبي العسكري بناءًا على طلب الرئيس الراحل “عبدالله يوسف أحمد”، للمساعدة في دحر العناصر المناوئة له، مما ساهم بشكل كبير في دخول البلاد في المرحلة الفيدرالية التي تعيشها حاليًا، وهذا الدور الإثيوبي الرئيسي بحد ذاته قد يوضّح الصورة لما يجب ـأن يكون عليه موقف تلك الطبقة، وطريقة تعاملها مع ما يستجد في ملف العلاقات مع الجارة إثيوبيا، والخيارات المتاحة أمامها لدى الحديث عن قضية “سد النهضة” او سواها.