الشريف محمود مع قضايا الشعوب العالم الإسلامي
تحدثنا فيما مضى عن جهود الشريف محمود في رفع وعي الأمة وتحرير البلاد من ربقة الاستعمار وأنّ هذه الجهود الدؤوبة والمحاولات المستمرة جاءت في قوالب أنشطة دعوية وثقافية من قبله، إلا أنّ ذلك ليس معناه بأنّ فضيلته وأهل الصومال جميعاً كانوا مشغولين بأحوالهم وهمومهم الخاصة فقط، دون إعطاء اعتبار للشعوب الإسلامية وغيرها في إفريقيا وآسيا، بل فقد أثبت الشريف محمود صلته قلبا وقالبا بإخوانه العرب المسلمين وخاصة القضية العربية الإسلامية المحورية وهي القضية الفلسطينية رغم ما كان يعانيه أهل الصومال من ظروف صعبة وتحت إدارة الاستعمار المحتل، لأّنّ الأمة كالجسد الواحد، ومن هنا أعطوا اهتمامهم ودعمهم لهذه القضية المهمة، وخاصة في أثناء الثورة الكبرى فى فلسطين فى 1936-1938م.
وإذا كان الشريف محمود وغيره من العلماء والوجهاء في قيادة الأمة التي تنشد الحرية والاستقلال فإن قيادة أمتنا في فلسطين كان علماؤها بقيادة المفتى أمين الحسينى ضد الغزو الاستيطانى الصهيونى والاحتلال البريطانى، وقد قام الشريف محمود بتنظيم حملة تضامن وتأييد واسعة لهذه القضية، ولعله تعرف على بعض قادتها أثناء وجوده في مصر، ونجحت محاولاته لنصرة فلسطين وأهلها عبر جمع تبرعات كبيرة وإرسالها إلى فلسطين، والتي كان لها أثر كبير في نفوس المجتمع الفلسطين وقيادته الدينية والسياسية في تلك الفترة العصيبة.
وأثناء العدوان الثلاثى على مصر فى عام 1956م كان الشريف محمود من أولئك الرجال الذين أبت عليهم أنفسهم الراحة والاستقرار دون مشاركتهم إخوانهم في مصر في تصديهم لهذا العدوان ومخططه البغيض، وكان طبيعياً من الشريف محمود أن يتحمس لمصر وأهلها ليس لأنه عاش فيها ردحاً من الزمن أو تلقى تعليمه العالى هناك، بل إنّ علاقته معها ومع أهلها ولاسيما علماءها ورجالها المصلحين كانت مستمرة حتى عندما عاد إلى أرض الوطن، ولما وصلت أخبار هذا العدوان السافر قاد الشريف محمود حملة واسعة على المستوى القومى للتضامن مع مصر، وكون لجنة لتعبئة موارد وقدرات الشعب للمشاركة فى المجهود الحربى المصرى تضم فى عضويتها كل الأحزاب والقوى الوطنية المختلفة، تولى فضيلته رئاستها.
ولا غرابة في ذلك من أهل الصومال بالمساندة والوقوف إلى جانب إخوتهم في مصر وفلسطين، بل وهكذا كان شعور أهل الصومال تجاه هذا العدوان، وجاء على عواطفهم وقرائحهم النثرية والنظمية،كما فعل ذلك أحد أهل العلم وهو فضيلة الشيخ محمد خليف الشيخ أحمد نور الدين الشيخ طاهر حاج حيث وضع كتاباً كبيراً سمّاه ” كتاب انكلترا ( انجلترا) عبارة عن ملحمة شعرية استعرض فيها المؤلف وقائع العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، وعبر فيه عن مساندته لجمهورية مصر وأبناءها وعلى رأسهم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، بسبب مقاومتهم ضد اليهود وخلفائهم الغربيين. وعدد الأشعار التي وردت في الكتاب تصل إلى قرابة 500 بيت .وقد طبع الكتاب بجمهورية مصر العربية في الخمسينات، وبسبب هذا الكتاب وحماسة الشيخ محمد خليف طلبت الحكومة المصرية آنذاك في عهد جمال عبد الناصر من أبناء الشيخ أن يستقبلهم ويكرمهم.
وللشيخ محمد خليف قضائد وأشعار أخرى للرئيس جمال عبد الناصر.
ولما كانت الحرب قد وضعت أوزارها. فاِن تضامن أهل الصومال اقتصر على جمع التبرعات بكل أشكالها فى جميع أنحاء البلاد، وذكر السفير محمد الشريف محمود ضمن حلقاته المذكورة سابقاً في شبكة الشاهد أنّ أباه كلف الشريف برئاسة الوفد الذى ضم أيضا السيد محمد عسبلى عضو اللجنة المركزية لحزب وحدة الشباب الصومالى الذى سافر إلى مصر فى عام 1957 لتسليم حصيلة التبرعات التى جمعت. ولم يقتصر الأمر على ذلك وإنّما أصرّ الشريف محمود على إبلاغ أهل مصر وقادتها بنفسه بهذه الوقفة القوية وهذا الحب الفياض من شعب الصومال وقادته الدينية والسياسية وذلك أثناء زيارته اِلى مصر وقبيل عودته إلى الصومال، حيث قابل الشريف والوفد المرافق له الرئيس جمال عبد الناصر، وجرت بينهما أحاديث الودّ والمحبة، وشكر الرئيس جهود أهل الصومال ووقفتهم الكريمة، كما أعرب الشريف محمود لفخامته عن امتنان الشعب الصومالي لدور مصر الدبلوماسى فى دعم الصومال لتحقيق الاستقلال، والمساعدات المقدمة بسخاء من قبلها من أجل النهوض بالتعليم والثقافة، مشيراً عليه إلى اتخاذ التدابير اللازمة بالمساهمة مع الدول العربية الأخرى لصد أى محاولة من جانب إيطاليا للالتفاف على تنفيذ الالتزامات الدولية تجاه تحقيق الاستقلال فى الأجل المحدد، أي مدة الوصاية التي تنتهي في 1960م، وأن أي محاولة لتمديد الأجل مرفوضة من الشعب الصومالي، وكأنّه كان يحسّ بأنّ الاستعمار وأتباعه يفكرون في إخلاف وعودهم والتزاماتهم الدولية، من هنا كان يريد من مصر المساندة والوقوف إلى جانب حرية بلاده واستقلالها. كما طلب الشريف محمود من الرئيس جمال عبد الناصر زيادة المساعدات التعليمية للصومال. وبعد تلك الزيارة التاريخية أدلى الشريف محمود بتصريحات صحفية أشاد فيها بجهود مصر من أجل تحقيق الاستقلال والمساعدات التى قدمتها فى المجال التعليمى، وقد غطت وسائل الإعلام المصرية هذه المقابلة.. وفى 24 سبتمبر 1957 نشرت مجلة التحرير المصرية تحقيقا صحفيا عن مقابلة معه تناول فيه وصف الأوضاع المأساوية فى البلاد سياسيا واقتصاديا وتعليميا، وتطرق فيه إلى المخاوف التى تراود الوطنيين من احتمال التنصل من تحقيق الاستقلال، ودلالات مقتل السفير المصرى الذى كان عضوا فى المجلس الاستشارى للأمم المتحدة. وقد أثار هذا التحقيق حفيظة وغضب السلطات الايطالية التى ردت عليه بعنف فى وسائل الاعلام التى تسيطر عليها فى إيطاليا وفى الصومال.. وهكذا بذل الشريف محمود جهوده المضنية لشرح القضية الصومالية في المحافل الدولية وقابل من أجلها معظم رجال الدين والسياسة في مصر، وشاركهم هموم الأمة وتطلعها. وفى أثناء هذا الحرّاك الدبلوماسي قابل الشريف محمود والوفد المرافق له ايضاً السيد محمد أنور السادات الذى كان عضوا فى مجلس قيادة الثورة المصرية ورئيسا للمؤتمر الإسلامى والذى أصبح فيما بعد رئيسا لجمهورية مصر، الذى رحب بزيادة حجم المساعدات التعليمية للصومال، ووافق على إنشاء مركز ثقافى فى مقديشو والذي كلف رئاسته الشيخ إبراهيم حاشي محمود – كما أسلفنا ضمن هذه السلسلة عند تناول أخباره رحمه الله– وكان هذا المركز يضم مكتبة ومقر سينما وناديا ثقافيا، ومدرسة ثانوية كبيرة، ومدارس ابتدائية وإعدادية فى جميع عواصم الأقاليم، وكذلك إنشاء معهد دينى ومضاعفة عدد أعضاء البعثة الأزهرية. والمدرسة الثانوية المشار إليها هى التى عرفت باسم (الله أو مدرسة الشيخ صوفي)، التى خرجت أعدادا هائلة من الطلبة الذين واصلوا دراساتهم الجامعية فى مصر والبلدان الأوربية وأمريكا والاتحاد السوفييتى.
شرح القضية الصومالية على محافل الدولية في الداخل والخارج
ألزم الشريف محمود نفسه حمل لواء الصومال وشرح إرادة الشعب في نيل حريته واستقلاله لدى المحافل الدولية، ولم تقتصر جهوده فقط في شرح القضية الصومالية في الداخل عبر المنظمات الإقليمية والعالمية والتي كانت تراقب عن كثب، بل أنّه شرح الأمر لدى المسؤولين العرب في مصر، ولدى انتهاء زيارته لمصر، قام بجولة إلى كل من السعودية والسودان وسوريا والكويت حيث عرض على رؤساء دولها تقارير عن الوضع الراهن فى الصومال، وتطلعات الشعب فى الاستقلال فى حينه المحدد، وطلب تدخلهم الإيجابى عبر منظمة الأمم المتحدة لضمان الوفاء بالتزامات الدولة الوصية فى أجلها المحدد دون مراوغة، وكانت الشائعات رائجة بأن إيطاليا ستحاول تمديد الأجل إلى ثلاثين عاما. وفى نفس الوقت طلب منهم تقديم المساعدات التعليمية والثقافية والمنح الدراسية للطلبة الصوماليين فى جميع المراحل التعليمية. وقد أثار الترحيب الذى لقيه من القادة المصريين ومن رؤساء الدول العربية والإنجازات التى حققها والبيانات الصحفية التى أدلى بها والتغطية الاِعلامية الواسعة التى حظى بها انزعاج واستياء السلطات الاِيطالية بحيث سرى التخوف من أنه سيلقى مصير الشهيد المصرى كمال الدين صلاح. وقد قدم نائب فى البرلمان الإيطالى اسمه فاوستو استجوابا ملخصه “هل الحكومة على علم بالبيانات الصحفية للشريف محمود عبد الرحمن رئيس الرابطة الإسلامية، وبأنه استقبل من قبل الرئيس المصرى، وبأنه طلب منه العمل على إنهاء الإدارة الإيطالية فى الصومال، وبانضمام الصومال إلى الجامعة العربية، وهل الوزير على اطلاع بانه يقوم بزيارة إلى سوريا والسعودية والكويت والسودان لمواصلة دعاياته المعادية للغرب، والموجهة بصفة خاصة ضد إيطاليا ؟! وقد رد وكيل وزارة الخارجية الإيطالية بأنه على علم بأنه قابل الرئيس جمال عبد الناصر فى سبتمبر 1957. أما فيما يتعلق بالمقالة التى نشرت فى المجلة المصرية، فاِن الحكومة طلبت من سفيرها فى القاهرة لفت نظر الحكومة المصرية إلى هذا الموضوع، وإبلاغها شعور إيطاليا بالأسف الشديد على هذا النشر.
وقد أفاد السفير محمد بن الشريف محمود بنجاح الاتصالات التي قام بها الوالد مع القادة العرب وعلى رأسهم مصر، سواء في قادتها بالقاهرة أو مع صداقاته الحميمة لممثلي مصر فى لجنة الأمم المتحدة للإشراف على نظام الوصاية الدولى المعتمد فى مقدشو، وهم على التوالى السفير محمد رستم والسفير طلعت راغب والسفير صلاح الدين فاضل والسفيركمال الدين صلاح والسفيرمحمد حسن الزيات الذى أصبح فيما بعد وزيرا لخارجية مصر.