مدينة (مقديشو) هي عاصمة الصومال وأكبر مدينه، تقع على الساحل الغربي للمحيط الهندي. كانت مقدشو على مرّ العصور مركزا تجاريا مهما،وملتقى لطرق الملاحة البحرية كموقع وسط بين شبه القارة الهندية وأوروبا من جهة (قبل شق قناة السويس)، والجزيرة العربية والساحل الإفريقي من جهة أخرى، وكانت المدينة من أكثر المدن الأفريقية جمالا وأحسنها أمنا،لكنّ ذلك تغيّر في أواخر التسعينات.
ففي آخر عام 1990م ، وتحديدا يوم30 ديسمبر، استيقظت مدينة مقديشوا على دوي الرصاص والمدافع من أطراف المدينة وسرعان ما انتشرت في كلّ أحيائها انتشار النار في الهشيم ، ففزع السكان من هول ما سمعوا ورأو، وسقطوا في أيديهم ، فقالو: أين المفرّ ، وإلى أين الملجأ ، فبدأو التنقل من حيّ إلى حي ، ومن مسكن إلى مسكن ، طلبا للنجاة من القذائف ،وتوقف القتال برهة من الزمان بسقوط الحكومة المركزية وسيطرةالجبهات المعارضة على المدينة، ففرح السكان بذاك ، واستبشروا بحلول الأمن والسلام ، ولم يدركوا أن المليشيات لا تحلّ محلّ الدولة ،فأخطأوالحسابات، لكنّهم تعلّموا درسا لا ينسونه أبد الدهر ، فتحوا أعينهم على سلسلة منظمة من أعمال النهب والتخريب ،وقتها …تيقنوا مقدار المؤامرة ومهارة المدبرين ، فانهارت المؤسسات الحكومية ، وانهارت معها ما تبقى لدى الشعب من طموحات وآمال.
وبهذا جرّت المدينة الآمنة ، المطمئنّ اهلها ( لؤلؤة المحيط الهندي)إلى مستنقع الحروب والصراعات الدموية وفوضى استمرت أكثر من عقدين ، أكلت الأخضر واليابس ، وأهلكت الحرث والنسل، سمعها القاصي والداني ، فرح بها الأعداء ، وحزن منها الأصدقاء والأحباب، لكنّهم كلّهم.. اتفقو على شيء واحد ، اتفقوا على اتهام السكان ورمي أهلها بالجهل والطيش ، فشاع بذلك بين الأمصار والبلدان ، حتى أصبحت المدينة مضرب المثل في الفشل ، وعلما على المآسي ونموذجاللشرور والآفات ، واعتقد الجميع أن المشاكل فيها مستعصية ،فبرروا بذلك فشل كلّ مشاريع السلام وجهود الإصلاح , وحتى وصف أحد الكتاب بها
ــ( مدينة تحتضر !!).
وأجبرت المدينة ( بغير حق) على الاعتراف بذلك ( والاعتراف بالخطإ فضيلة !!! ) ، لكنّها لم تقنط من رحمة الله، ولم تيأس من روح الله، فظلّت في ذلك فترة من التيه والضياع ،لم تجن منها الشوك فقط ، بل استفادت منها دروسا وعبرا ، إنها المحن والشدائد … صانعة الرجال ، والأمم تنهض بعد المصائب العظام، فاستفاقت المدينة من النوم ، وشرعت تستوعب ما حدث بها ، وتفكّر في المخرج من هذه المحن ، وتجرّب كلّ الوسائل ، وتطرق الأبواب .
وأخيرا … لاح لها نور الفرج ، ووجدت القدرة للنهوض ، ووطأت قدماهاالطريق إلى الرخاء والاستقرار ، فبدأت أولى خطواتها في الاتجاه الصحيح ،وبدأت تنفض عن نفسها غبار التخلف ، ماسحة ما علق بها من الدرن والأوساخ ، فدبّت الحياة في الجسم المنهوك ، وعاد إليها من هجر عنها ، وآثر العيش بعيدا عنها، وازدهر فيها العمران والتعمير ،وتغيرت كل الأمور إلى الحسن بل إلى الأحسن.
وحتى لاتصيبنا الدهشة ويتملكنا العجب، فنسرع إلى تكذيب هذه الحقائقأو وصفها بالمبالغة ، نذكر هذه المعلومات والمؤشرات بل المبشرات ، لتجلي الصدأ من القلوب وتكشف الحقيقة للعيان :
فالآن أكثر مساحة المدينة مأهولة ومكتظة بالسكان، والشوارع معبدة ومزركشة بالمصابيح العاملة بضوء الشمس، ويجري تشييد المباني العصرية وترميم القديمة على قدم وساق، وتزدان المدينة بالفنادق الفخمة على ساحل المحيط الهندي وبين الأحياء، والتجارة فيها مزدهرة والأسواق عامرة بالبضائع المختلفة ، وينشط الاستيراد والتصدير من المطار والميناء، وتتقدم الاتصالاتفتشهدتطورا واتساعا منقطع النظير متفوقة على كثير من العواصم الأفريقية،والأمن مستتب ، والناس يشعرون بالأمان أكثر مما مضى، وتقلّ حوادث القتل والسطو، وتنسى مسامع الشعب دوي الرصاص والمدافع، فتعمل في النهار بانشراح البال ، وتغفوا في الليل ملء الجفون ، قريرة العين هادئة البال، وتزدحم في الشوارع العربات الفاخرة والسيارات الفارهة، ولا تتوقف الحركةحتى منتصف الليل .
ويترك الشباب بل ينسى حلم العيش في أوربا ، ويتوقفون عن الهجرة غير الشرعية، لماذا ؟ لاحت لهم بوادر الأمل ، فيقبلون على نهل العلم وازدياد المعرفة، والمشاركة في جهود التعمير وبناء البلد .
والتعليم-يوما بعد يوم – يزداد نموا بمختلف أنواعه ومراحله من الروضة والأساس إلى التعليم العالي، ويشتدّ التنافس فيهافي الجودة والتطوير، فتعقد المؤتمرات والندوات لتطبيق الجودة الشاملة ومواكبة العالم في المستجدات العصرية.
ويزدحم المطار من العائدين من المهجر وبلاد الغربة ، وتسجّل الجوازات نسبة مرتفعة وأرقاما قياسية تثلج الصدور،ومعظم الدول تعيد فتح سفاراتها في مقديشو ، وتكثر زيارات الوفود العالمية، وتستضيف المدينة أو تتهيأ لاستضافة المؤتمرات الإقليمية والدولية، وتفتح البنوك العالمية فروعا لها في المدينة ، إضافة إلى بنوك محلية ذات خدمات راقية، والشواهد كثيرة ، والمبشرات وفيرة ، يعجز اللسان حصرها ، ويملّ السمع عن ذكرها.
فسبحان مغيّر الأحوال والأزمان ، ومفرج الكربات والويلات…
هذه هي مقديشو ،تستعيد بهائها وتستردّ جمالها، وتحتلّ المكان اللائق بها مرفوعة الرأس شامخة، تستعيد مكانتها بين العواصم العربية والإفريقية والعالمية، كلّذلك بفضل الله، (وقل بفضل الله ورحمته فبذلك فليفرحوا..) .
حقا نهضت مقديشو في حين سقطت عواصم عربية وإسلامية أخرىفي وحل الفوضى ومستنقعات الحروب.
فهذه “طرابلس” ، تمرّ الآن ما مرّت به مقديشو في التسعينات ،بل أشدّ وأنكى!!
تعتاد على الانفجارات والإغتيالات ، وتسيطر المليشيات على المرافق العامة والمؤسسات الحكومية من المطار والميناء وآبار البترول ومعامل التكرير، ويشتعل الصراع على السلطة والتنافس على سيطرة المرافق الحيوية، وتزداد لدى الأطراف والجماعات الرغبة في سفك الدماء وقتل الأبرياء ، وتكون مسرحا وساحة لتصفية الحسابات المحلية والدولية ، وتعبث فيها قوى المكر والفساد فتشعل فيها فتيل الصراعات ثم تعرض الوساطةوتلوح بعصا التدخل الدولي لحلّ المشاكل ، أوعقد مؤتمرات المصالحة في هنا وهناك ، والفتنة فيها مستيقظة (رحم الله من يخمدها).
وما “صنعاء” عنّا ببعيدة ،صنعاء مدينة الحضارة والجمال ، والتي قال عنها الإمام أحمد بن حنبل( لابدّ من صنعاء وإن طال السفر ).
قبل أيام تنقلب الموازين ، وتسقط في أيدي مليشيات ، تشرع في نهب مال العام والخاص ، و تمعن في إذلال السكان وترويعهم ، وتفرض نفسها بديلة عن الدولة وفوق النظام ، وتتحكم في كلّ المرافق ، تزدحم الشوارع والطرقات بالمدججين بالسلاح ،فتحدث فظائع وترتكب منكرات ، متخطية الأعراف والعادات اليمينية السمحة ، فيشعر الناس بالخوف وانقطاع الآمال ، ويؤثرون السكون والسلامة، و” يكرم المرؤ مخافة شرّه)
ما أصدق أبو البقاء الرندي حيث يقول :
هي الأمور كما شاهدتها دول من سرّه زمن سائته أزمان
وَهَذِهِ الدارُ لا تُبقي عَلى أَحَدٍ وَلا يَدُومُ عَلى حالٍ لَهاشانُ
وقبل ” طرابلس” و ” صنعاء ” بغداد ودمشق، ومدن أخرى…. ىتستعدّ للحاق الركب وخوض التجربة نفسها ،فيصبح العالم العربي مرتحلا إلى الفوضى ومقبلا على التيه والضياع، ومدلفا إلى دياجير الظلمات .
فمقديشو (الحنون) المهتمّة بأمر المسلمين، تنسى مشاعر الحبور والفرح بتحسّن أحوالها ،فتحوّل نظرها إلى ما يحدث في أخواتها , لا تتكبر ولاتتبجح، ولا تقول (نفسي نفسي) ، بل تحترق أسى ولوعة لرؤية مأساتها تتكرر في أصقاع أخرى ، وتتذكر تجربتها المريرة ، ولا تجد بدا من أداء واجب النصيحة ،فتؤكد التوصية بالصبر ، وركوب الحكمة والتأني ، وتقديم المصلحة العامة على الخاصة .. على القيبلة والتنظيم، ولا تكتفي بذلك ، بل تنادي سكانها بالتضرع إلى الله ، والدعاء لإخوانهم بالنصر والفرج.
هذه هي مقديشو، لسان حالها يقول ( قد ذهب ما كت تعرف…) ،هذه هي مقديشو.. تشقّ عباب الحياة ، وتركب أمواج التطور والازدهار ، وتسدل الستار على الحقبة الماضية ، حقبة الفوضى والدمار ، وتحلف اللحاق بركب الأمم المتقدمة ، والنزول إلى حلبة السباق، مستلهمة أبيات المتنبي :
وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
فالمدينة لا تحلم ! بل تدرك وعورة الطريق وقلة المساعدين ، وكثرة الماكرينوالراغبين بإبقائها في ذيل كلّ رفيعة وصدارة كلّ حقيرة، ضاربة عرض الحائط الأراجيف المنشورة عنها والمروجة للحوادث القليلة فيها من هنا وهناك، والتي تجعل الحبّة قبة !
فأقسمت ألا تأبه بزوبعة أعدائها وضجيجهم ، وكثرة الجهات المتضررة من صعود المدينةوتألق نجمها ..
وما على العنبر الفوّاح من حرج أن مات منه الزبّال والجُعَل .
وتردد بيقين وثبات : الكلاب تنبح والقافلة تسير .