عمّقت الأزمة الماثلة في الصومال من مفهوم الدولة الفاشلة، ظهر هذا التعبير إلى الوجود عندما نشرت مجلة «السياسة الخارجية» الأمريكية عام 2005 تعريف أقره صندوق دعم السلام ومؤسسة كارنيغي للسلام العالمي يوضح بأنّ الدولة تكون فاشلة «حين تفقد الحكومة المركزية سيطرتها على أراضيها».
ويتمثل فشل الدولة في الصومال في عدم تمتعها بشرعية قوية في أنحاء الدولة، وذلك نتيجة لخروجها من الصراع فاقدة لمكونات العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطنين حيث ضرب الفساد والتمثيل السياسي الضعيف وإساءة استخدام القوة العسكرية مقومات المواطنة في مقتل.
فبالإضافة لما ورثته الدولة الصومالية من الاستعمار ومنذ استقلالها عام 1960 وهي تعاني من عجز على مستوى القيادة، فحكومتها متقلبة بين نزاعات العشائر ومحاولات الابتعاد عن القبلية. فبعد اندلاع الحرب الأهلية منذ 1980 وحتى الإطاحة بحكم الجنرال سياد بري وفراره من مقديشو عام 1991 وانتشار حالة الفوضى التي أسفرت عن مقتل وجرح آلاف المدنيين، وما زالت الفصائل الصومالية تتقاتل.
أدت هذه الصراعات وبهدف وقف الحرب الأهلية إلى صدور قرار مجلس الأمن الدولي في ديسمبر/كانون الأول 1992 بضرورة التدخل العسكري وذلك بقيادة الولايات المتحدة التي أنزلت قواتها من المارينز في ميناء العاصمة مقديشو. وفي مارس/ آذار 1994 أنهت القوات الأميركية عملياتها في الصومال وأجلت قواتها منه. وبالرغم من التقلب بين حكومات مركزية ومؤسسات انتقالية كان الغرض منها هو استتباب الأمن وتفادي التدخلات الأجنبية لحل هذه المشكلات، فإنّ النزاع في الصومال الذي تجاوز عقدين من الزمان يدل على عدم وجود حكومة فعالة في البلاد مما دعا الأمم المتحدة ومنظمات المجتمع الدولي إلى تعزيز المساعدات للصومال على أسس إنسانية فرضتها تحديات النزاع في البلاد.
وبالرغم من أنّ تركيبة الشعب الصومالي هي أحادية القبيلة، تتمتع بوحدة اللغة والدين والثقافة داخل كيان الدولة، إلا أنّ محاولات الخروج بطبيعة الشعب من حالة الرعوية إلى تسييسها أدى إلى نشوب صراعات على السلطة والثروة. إنّ الأزمة ليست أزمة ناشئة فقط عن الإرث الاستعماري، وإنما هي أزمة قيادة وتسيس القبيلة، والنزاع على السلطة والثروة، وكذلك هي أزمة ناشئة عن طبيعة الشعب الصومالي الرعوي، وهذه الصفة الرعوية عملت كمضاد لانتشار الثقافة السياسية.
كانت الصومال إحدى البلدان الأفريقية العربية التي صمدت إلى وقت قصير حين اعترت التغييرات دول منطقة القرن الأفريقي بسبب عبور تيارات العولمة، وذلك على مستوى الثقافة والهوية ونموذج الدولة. أما الآن فقد أصبحت أسوأ نموذج أفريقياً وعربياً، تمزق فيها كيان الدولة وتناثر تكوين المجتمع، وأضحت مضرب المثل للمأساة في أبشع صورها من جوع وفقر ومرض بالإضافة لانهيار أركان الدولة. وكنتيجة حتمية لكلّ ما سبق برز أسوأ نموذج يمكن أن تقدمه الصومال ليس لأفريقيا والعالم العربي فحسب، وإنما للعالم أجمع وهو نموذج الجوع الذي أخذ يفتك بالدولة منذ بدايات حرب الصومال الأخيرة عام 2009. هذه الحرب بدأت بعد انسحاب إثيوبيا من الصومال فسقط النصف الجنوبي من الدولة بسرعة في أيدي حركة «الشباب» الإسلامية لتبقى عدة مناطق رئيسة تحت سيطرة الحكومة الصومالية وقوات الاتحاد الأفريقي. وظهرت نتائج الحرب المدمرة بشكل مريع عام 2010. وبقيت بالتالي عبارة (الصوملة) هي المرادف والتشبيه لهذا النموذج في وجه لا يقلّ بشاعة عن المشبّه به.
مفهوم الدولة في الصومال مختلفٌ حوله، فالنخبة السياسية تناقش تعددية الدولة وقيامها من هذا الموات على شكل دولة مركزية أو فيدرالية تحكم بالشعب، وفي الجانب الآخر ترى حركة «الشباب» الإسلامية ضرورة عودة الخلافة الإسلامية والحكم بقوة الدين ولا تعترف باستقلال الصومال ورفع علم الدولة وذلك لاعتباره تقليداً استعمارياً. لم يشفع للصومال موقعه في منطقة القرن الأفريقي ذات البعد الاستراتيجي المهم بسيطرته على الممرات المائية الحيوية التي تتحكم في طريق التجارة العالمية خاصة تجارة النفط من دول الخليج إلى أوروبا عند مضيق باب المندب. ولم يشفع له كذلك وقوعه على أطول ساحل يطل على المحيط الهندي والخليج العربي، بل كان هذا الموقع مصدراً لإشاعة الاضطرابات من ناحية التمركزات العسكرية الأجنبية التي تهدف إلى حماية مصالحها في المنطقة، مما أنشأ نوعاً آخر من الصراع في عدم الرغبة في وجود القوات الأجنبية في المنطقة.
تمس الأزمة الصومالية كل جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية في البلاد. والكل شريك في حالة التردي والتدهور التي وصلتها الصومال، جراء الفساد وفشل السياسات الاقتصادية. وحركة «الشباب» الإسلامية بعملها على إضعاف فعالية مجهودات القوى الدولية لإحلال السلام وإهدار الكثير من فرص صياغة كيان الدولة. ووسط هذا الفراغ ظهرت الحاجة إلى الدعم على مستوى الدولة لأكثر من ذلك ، في أزمة دامت عشرون عاماً وألقت بظلالها السالبة على المشهد السياسي والثقافي لدول القرن الأفريقي.
منى عبدالفتاح
المصدر- مجلة العرب