أكفان الوطن !

اِعتَدْنا، غدا سوف نبني في ذات المكان ، ندفن ونعمر ، هي  ضريبة العيش في المدينة ، الأرواح بيد الله ، لا نخاف من الموت ، الموت قدر ينتظرنا جميعاً، هذي هي بعض العبارات التي يرددها أهل مقديشو بعد كل انفجار وبعد كل قتل ووبعد كل مصيبة أياً كان نوعها، وكأن تلك العبارات أصبحت مبرمجة في أدمغتهم، و مطبوعة في قواميسهم اليومية وتتلفظها ألسنتهم بشكل آليّ، وكأنها تأتي من أعماق عقلهم اللّاواعي ، تمر على الأسماع مروراً جبرياً بارداً مبلِّداً للأنفس لا مصبِّراً لها ، تثير الشفقة المؤقتة ، وتمهد لعجلة النسيان أن تتقدم و تطوي هذه الصفحة سريعاً وتمحي كل أثر لها ، و هي تُحدِّث الذاكرةَ بأن صوت الانفجار  من وهمها أي من وهم الذاكرة ، ولم يكن قطّ واقعاً ، و أن بِرك الدماء لم تنقط ، و أنّ أكفان الموت المتوالية لم تسفط ، فيتخدّر الشعور  تَخدُّراً تاماً، وتتبلّد الرؤية، فتصبح  المشاهد التراجيدية الحزينة لقصة إنسان مقتول ومبنى مهدوم لأهل مقديشو مشاهد درامية مكررة باهتة، فقدت كل عناصر التشويق وروح المغامرة التي تأتي بحل جديد، فقد استهلكت هذه القصة كل طاقاتهم و كل مداركهم الفكرية لعقود ، فتحولوا إلى حالة من الغضب الكامن كمون النار في الرماد ، والحنق المكبوت في الصدور ، والعجز المُكبِّل للحركة ، والاستسلام الممزوج بالمقاومة .
فهم لا يستخفون بحقيقة الموت ، وليسوا كارهون للحياة ، بل هم عاشقون لها ، لكنهم مثقلون بأعباء الأحداث في العقود الثلاثة الماضية ، يائسون وحيدون على كثرة المعزين والمساندين لهم ، هم محاربون بأبنائهم رغماً عنهم في معارك لا يفقهونها، ضحايا لانتصارات وهمية لا يعرفونها ، هم محتملون احتمال اللامكترث بما تؤول إليها الحلول ، هم في منزلة تُشابه اللامبالاة المزيفة في نوايا الآخرين وفي خطابات وعود المؤاسين ، هم حصروا في زوايا ضيقة حالكة الظلمة ، مرعبة ، مبهمة ، يغطى عليها المجهول وصوت المذموم ، يجادلون بقلة حيلتهم شركاء الوطن الأخرين ، و المسؤولين التائهين عن حقوقهم في العيش خارج أسوار هذا الصراع الأجوف الذي لا قاع و لا حدود له .
انفجار جديد يعني عزلة جديدة ، أغلاق للطرق أكيدة ، استعراضات عسكرية ، عنتريات سياسي هزيلة ، تنديدات وجاهية ضعيفة ، دعوات للتعاضد رحيمة ، و تعني أيضا أيام تُبرق فيها  آثار جروح مقديشو القديمة ،  وتستيقظ فيها الآلام المدفونة لتذكرهم وتذكرنا بأن لا شيء يضيع لمظلوم مقهور حتى أبشع الذكريات المريرة تعود وتُحكى ، وتُحرك معها الآلف الأشياء التي لم تتحقق ، العدالة ، المكاشفة  ، الإنصاف ، القصاص ، وحتى الجنازة اللائقة ، وذكر بعد الممات دائمة .
الحزن الذي يحيط بمقديشو اليوم يكبدها ويقتلنا ، يؤلمها ويُخجلنا ، يقويها ويُضعفنا ، يظلمها و يجعلنا شهود غير فاعلين بشكل الذي يوقف التعسف ، ويرفع اللامبالاة التي تُلاقيها مقديشو من الجميع ، العدالة لمقديشو هي عدالة للإنسانية و مساواة وطنية ، و إنقاذ حضارة بشرية وإيقاف لمسيرة الأكفان و الأحزان.

فاطمة شيخ محمد حوش

كاتبة صومالية
زر الذهاب إلى الأعلى