بين الشك والتوازن والفضيلة

في عالم الفلسفة، حيث تطرح الأسئلة الكبرى عن معنى الحياة، وقف ثلاثة من أعظم العقول التي أنجبتها الإنسانية: سقراط، أفلاطون، وأرسطو. لم يكونوا مجرد فلاسفة، بل مؤسسي رؤى ومدارس، حاول كل واحد منهم أن يمسك بطرف الحقيقة، وأن يهدي الإنسان إلى درب الحكمة والعيش الكريم.

سقراط بدأ من الشك، لكنه لم يره نفيا أو عجزا، بل طريقا إلى المعرفة. كان يؤمن أن الاعتراف بالجهل هو أول خطوات الفهم، وأن العقل الذي يسأل ويحاور هو وحده القادر على أن يتجاوز أوهامه ويقترب من جوهر الأشياء.

ثم جاء أفلاطون، تلميذه الأقرب، فحمل الشعلة إلى عالم المثال. رأى أن سعادة الإنسان لا تنال باللذة العارضة، بل بالعدل، واللطف، وحرية الفكر. المدينة الفاضلة في نظره لا تبنى بالحجارة ولا تدار بالقوانين فقط، بل تشيد بالأفكار الرفيعة، ويقودها من تربى على محبة الحق والخير.

أما أرسطو، فكان أكثر التصاقا بالتجربة. لم يبحث عن المثال، بل عن الممكن. آمن أن الحياة الطيبة تتحقق حين يعيش الإنسان بتوازن، وأن الفضيلة تكمن في الوسط بين نقيضين: الشجاعة بين الجبن والتهور، والكرم بين البخل والتبذير. وهذا التوازن ليس فكرة مجردة، بل ممارسة يومية، لا تثبت إلا بالفعل.

وهكذا، قدم هؤلاء الثلاثة دروسا لا تزال حية: سقراط علمنا كيف نشك لنفهم، وأفلاطون كيف نحلم لنرتقي، وأرسطو كيف نعيش باعتدال نرتب به فوضى الحياة. ورغم مرور قرون طوال، ما زالت أسئلتهم تعنينا، وأفكارهم تلقي بظلها على حاضرنا القلق.

في هذا الزمن المضطرب، الذي تتكاثر فيه الضوضاء وتبهت فيه البصائر، نحن أحوج ما نكون إلى لحظة صدق مع الذات. لحظة نعيد فيها طرح السؤال القديم: كيف نحيا حياة فيها من التوازن ما يبقي العقل صاحيا، وفيها من الفضيلة ما يجعل القلب مطمئنا؟

ليست الفلسفة رفاهية، بل هي في جوهرها دعوة إلى الوعي، وتمرين دائم على أن نحيا بوعي ومعنى.

عبد الرحمن غوري

عبدالرحمن غوري باحث في الأدب والفلسفة
زر الذهاب إلى الأعلى