توارثت قبيلة “Gbaya” العريقة في “Oubangui-Chari” المعروفة اليوم ب”إفريقيا الوسطى” حكمة قديمة تقول “ليس عيباً أن تسقط أمام الجبال، بل العار كل العار أن تنكر صلابتها”.
سبقت إدارة الرئيس “فوستن توديرا” كافة دول الجوار الإقليمي للسودان في تقييم الحرب التي يخوضها الجيش السوداني ضد مليشيا الدعم السريع، ورغم ضبابية موقف بانغي من الأزمة السودانية أو فلنقل تواطؤها إلا إنها وبحكم جوارها الجغرافي للسودان وجدت نفسها محاصرة محلياً وأمنياً وإستخباراتياً جراء ذلك التواطؤ ولا مناص لها لكسر ذلك التحويط إلا عبر الخرطوم، وهذا ينطبق على كافة دول الجوار الإقليمي للسودان، وإن كانت بانغي أكثرهم شجاعة وإقداماً على التراجع والإعتراف بسوء التقدير الذي شاب موقفها الذي راهن على مليشيا الدعم السريع ذات يوم.
هناك قناعة قديمة وممتدة من بانغي مروراُ بأنجامينا إلى أديس أبابا ترى بأن تكريس أو تقويض أمنها القومي مرتبط بما يمكن أن يدنيها أو يبعدها من الخرطوم، وتلك فرصة ليس فقط لبانغي الساعية إلى كسب رضا الخرطوم من خلال البوابة الروسية، بل هي أيضاً فرصة للسودان لإستكمال إعادة ترتيب أوراقه إقليمياً.
تأتي زيارة وفد أفريقيا الوسطى إلى السودان مساء أمس في إطار مساعي بانغي لكسب موقف الخرطوم في ملفين مهمين هما:
- زعماء إئتلاف الوطنيين من أجل التغيير.
- ملف “أرميل سايو”، فبانغي ترى بإن الخرطوم وحدها القادرة على ضبط حراك المعارضة في إفريقيا الوسطى التي باتت اليوم أقوى مما كانت عليه، وبالرغم من الضغوط التي مارستها السلطات الأمنية ضد “أرميل” بإحتجاز عدد من أفراد أسرته ونقلهم إلى سجون مختلفة أواخر أبريل الماضي، وتسليمه مؤخراً عبر الكاميرون، إلا أن ذلك لم يجدي نفعاً أمام تنامي التحالف العسكري لإنقاذ الشعب “التابع لسايو والمدعوم سودانياً وفقاً لرؤية بانغي”.
تدرك إدارة الرئيس “فوستن توديرا” حجم الدور الذي يمكن أن تمارسه الخرطوم إما لتعزيز أمنها القومي أو لتقويضه، وعليه جاءت ” Stratégie de convergence et de coopération” وتعرف باللغة العربية “إستراتيجية التقارب والتعاون” مع السودان لتفرض نفسها بعد فشل الرهان على مليشيا الدعم السريع، وبالتالي لا ضير على الخرطوم من تفعيل إستراتيجية “إقتسام الرؤية”، إن كانت المطالب التي تطرحها إدارة الرئيس “فوستن توديرا” واضحة ومحددة وتأتي في سياق إحترام سيادة الدولة الوطنية السودانية، والإقرار بدور مؤسساتها الرسمية في إستقرار الإقليم، فبانغي مثلها مثل دول جوارها الإقليمي التي ذاقت تداعيات الأزمة السودانية على أمنها الداخلي، ووصل الأمر بها إلى الوصول إلى مستوى “Hésitation politique \الإحجام السياسي” في كثير من الملفات التي باتت تؤرق أمنها القومي، وعليه يرجح أن يناقش وفد إفريقيا الوسطى المتواجد حالياً في السودان على النقاط التالية:
- وضع جدول زمني لبدء تنفيذ “إستراتيجية التقارب والتعاون” التي إتفق عليها الرئيسان أثناء إجتماعهم في مجلس الأمن.
- حل ملف منطقة “PK5” في إفريقيا الوسطى، فمثلما تدرك الخرطوم رؤية القيادة السياسية في بانغي لمنطقة “PK5” بإعتبارها المنطقة الاقتصادية لبانغي، فالأخيرة تدرك الأبعاد الأمنية والإستخباراتية التي تربط الخرطوم بالفصائل المسلحة في تلك المنطقة.
- الإستثمار في قدرة تأثير الخرطوم على نشاط المعارضة المسلحة ضد إدارة الرئيس “توديرا” والعمل على وضع أسس للمصالحة الوطنية، بإعتبار أن تلك القضية من أهم القضايا المؤرقة لإفريقيا الوسطى.
- لا يستبعد أن تطلب بانغي من الخرطوم إقناع “أرميل” بحل ( Coalition Militaire de Salut du Peuple et de Redressement\ التحالف العسكري لإنقاذ الشعب والإصلاح ) الذي أسسه العقيد “أرميل سايو”.
يقترح على الخرطوم عمل الآتي:
- الوقوف على مسافة واحدة من كافة الأطراف بسبب الأزمة الداخلية التي تمر بها أفريقيا الوسطى ما دامت بانغي مستمرة في حيادها المبطن لمليشيا الدعم السريع.
- التمسك بورقة المعارضة في أفريقيا الوسطى “سراً” وان كان ذلك يقلق بانغي ولكنه ضمان بإلتزامها تجاه الخرطوم في تحييد مليشيا الدعم السريع وإجهاض مشروعها، ومن حق الخرطوم رسم حراكها الإقليمي والدولي وفقاً لما تراه بعد هذه التجربة المريرة مع المليشيات المقوضة لسيادة الدولة الوطنية.
- تكثيف التأكيد إعلامياً ودبلوماسياً على أن الحرب التي تخوضها مليشيا الدعم السريع ضد القوات المسلحة السودانية هي حرب لإستئصال الدولة السودانية، ومواردها، ومؤسساتها الوطنية، وتجريف شعبها بكافة مكوناته، وبعيدة كل البعد عن تحقيق إرادة وطنية، وعدالة إجتماعية، وديموقراطية يتساوى أمامها الحاكم والمحكوم، وبالتالي مواجهتها والقضاء على داعميها “واجب مقدس” لا مناص عنه.
- التأكيد لكافة البعثات الدبلوماسية الدولية على توافق كافة المكونات العسكرية السودانية وتوابعها الأمنية والمدنية على أن مليشيا الدعم السريع المتعددة الجنسيات ما هي إلا أداة تنفيذية لإعادة رسم الخارطة الإقليمية وفقاً لرؤية خاصة متضادة مع مستقبل السودان ومصالح منطقة القرن الإفريقي قاطبة.
- الإشارة في كافة المناسبات الدبلوماسية إلى إضطرار كافة الأطراف الدولية الفاعلة في الساحة السودانية بإعادة حساباتها السياسية والأمنية من الأزمة السودانية، بعد إدراكها الكامل بإستحالة تحقيق مكاسبها الخاصة من خلال جماعات خارجة عن القانون مهما تضاعف الدعم اللوجستي لها وتعددت أطرافه.
د.أمينة العريمي
باحثة إماراتية في الشآن الأفريقي