في وداع يوسا

علمت بخبر وفاته صدفة، لم يكن مفاجئا، فالرجال الذين يلامسون التسعين لا يعيشون إلى الأبد، ولا أحد ينتظر من الزمن مهلة إضافية. لكن الغريب أن ماريو فارغاس يوسا، الذي عاش حياته وكأنها رواية اختار أن يغادر من غير صخب، من غير جملة أخيرة، تاركا وراءه رفوفا ممتلئة بالحكايات، وقراء ما زالوا يطلبون الصفحة التالية.

من لم يقرأه قد يظنه كاتبا متجهما، تخرج رواياته من معسكر مغلق أو من جعبة ضابط. لكنه كان نقيض ذلك تماما. كان يكره الطغاة، لكنها لم تكن كراهية مطلقة ، يسخر منهم بسرد هادئ، فيه من السخرية بقدر ما فيه من الدهشة. يكتب عن العنف كما يروى نكتة، وعن الحب كما تكتب تقارير سرية. يمزج اللذة بالوجع، والمأساة بالضحكة العابرة، ويقود القارئ كما يقود الراوي خيوط الحكاية، من غير أن يشعر.

ولد في أسرة مفككة، وأخبرته أمه أن والده توفي قبل ولادته. ثم عاد الأب بعد عشر سنوات، لا ليحتضنه، بل ليقسو عليه، ويمنعه من الشعر، ويرسله إلى مدرسة عسكرية ليصبح رجلا. وهناك، حيث يربى الأطفال على الخوف بدل التفكير، بدأ يوسا رحلته الأولى مع الأدب. وجد في الرواية مأوى، لا لأنها أجمل، بل لأنها أقل قسوة من الواقع.

كتب “المدينة والكلاب” فاشتعلت بيرو. أحرقت الرواية، وقُصّت منها صفحات، لكنها أعلنت ولادة كاتب لا يهادن. كتب بعدها “البيت الأخضر”، ثم “حوار في الكاتدرائية” ثم “حرب نهاية العالم”. لم يكن يكتب ليحكي فقط، بل ليكشف كيف تصنع السلطة كذبها، وكيف يخترع المجتمع قسوته، وكيف يواصل الإنسان، رغم كل ذلك، أن يحب ويحلم ويخطئ.

قرأ سارتر، وتمرد على الماركسية. أحب فوكنر، لكنه شكا من الرواية الأمريكية. حلم بدون كيخوته، لكن في نسخة بيروفية، يسكنها الغبار والتهميش. قال إن الأدب لا يغير العالم، لكنه يعلمنا كيف نراه، وهذا يكفي.

في “حفلة التيس” خلع القناع عن رافائيل تروخيو، الديكتاتور الذي حكم الدومينيكان كما يحكم أب مزاجي أسرته. جمع الشهادات، وكتب رواية موجعة. قال بعدها إن الواقع كان أفظع مما كتبه، وهي جملة لا يقولها روائي إلا حين يبلغ قعر الحقيقة.

نوبل؟ نعم، نالها أخيرا عام 2010، بعد انتظار طويل. كل خريف، كانت أسرته تعيش على أعصابها. وحين جاءه الاتصال، ظنه مقلبا. قال لزوجته لا تخبري الأولاد، ربما تكون نكتة أخرى. لكنه خرج إلى الشرفة، واستنشق الهواء، وقال سأعود إلى الكتابة، لا بد أن أكتب لأستوعب الخبر.

وفي هذه اللحظة من السرد، لا بد أن تمر صورة غابرييل غارسيا ماركيز، ذلك العملاق الآخر، الذي تلقى من يوسا ذات يوم لكمة في بهو سينمائي في المكسيك. صورة لا تنسى، ماركيز بعين منتفخة وابتسامة عجيبة. خلاف لم يعرف سببه تماما، قيل إنه غيرة، وقيل إنه قلب. لكن اليوم، وقد لحق فارغاس يوسا بصاحبه إلى الدار الآخرة، لا ملاكمات هناك، ولا مشاجرات، ولا حتى تنافس في نوبل. لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه.

هل مات يوسا؟ نعم، مات الجسد. لكن من يكتب بهذا الإصرار، لا يرحل فعلا. كل رواية له كانت جزءا من قلبه، وكل صفحة كانت تحديا شخصيا للزمن. قال مرة إن الكاتب لا يموت ما دام هناك من يقرأه. وقد صدق، حتى وهو يودع.

أراه الآن في مكان بعيد، يرتب مكتبته كما كان يفعل ريغوبيرتو في يوميات السيد ريغوبيرتو. أربعة آلاف كتاب لا يزيد ولا ينقص. كل كتاب جديد يعني طردا لآخر قديم. وقد يكون الآن، كما أراد دوما، يعيش داخل رواية لم يختمها، أو لم يرغب في أن يختمها.

رحل الجسد، وبقي السرد. ومثلما قال، الحياة ليست إلا كتابا. لكن ماريو فارغاس يوسا هو من كتبه.

أقول قولي هذا، وأعترف أنني لم أتح لنفسي بعد فرصة قراءة روايته الأخيرة، تلك التي حملت عنوانا يهمس أكثر مما يصرح: أهديك صمتي، أو كما صدرت بالإسبانية: Le dedico mi silencio.  عنوان يشبه وداعا لم يكتبه، لكنه تركه لنا بين السطور.

عبد الرحمن غوري

عبدالرحمن غوري باحث في الأدب والفلسفة
زر الذهاب إلى الأعلى