في متاهة دان براون

لم يعرف الأدب التشويقي في العصر الحديث تجليا روائيا أثار من التناقض والفضول ما أثارته روايات دان براون. لم يخترع حبكة المؤامرة، ولا كان أول من ولج دهاليز الرموز، لكن وحده جعل القارئ يرتاب في براءة المعلومة، ويشك في سكون التاريخ. كل حقيقة عنده تحمل فخا، وكل رمز ظل لحقيقة أخطر. مشروع براون لا يقتصر على التسلية، بل يعيد تشكيل المعرفة، ويقنع القارئ بأن الإدراك قد يكون الوجه الآخر للخداع.

كتب كثيرون عن الأديان والرموز والكتب المقدسة والمتاحف، لكن أحدا لم يقترب من هذه العوالم بذلك الإيقاع اللاهث، وذلك التصعيد الذي يجعل الرواية أقرب إلى مطاردة فكرية. في شيفرة دافنشي لا يروي براون قصة، بل يزرع في الذهن شكا وجوديا: ما من شيء يكسو الحقيقة بثوب الخداع كما تفعل الأسطورة، وما من شيء يعري الأسطورة كما تفعل الحقيقة.

ليست عبقريته في اختراع الحبكات، بل في أنه أقنع القارئ بأن الكنيسة ليست فقط حارسة عقيدة، بل خزان أسرار البشرية. جعلنا نصدق أن هناك ما هو أعمق من الإيمان، وأخطر من الإنكار ( ممكن إفادتنا بالمقصود من هذه الفقرات مولانا؟) . روبرت لانغدون، بطله الأشهر، لم يكن محققا تقليديا، بل ضميرا قلقا يخوض معركة المعنى في زمن فقد المعنى. يقف على حواف الأسطورة، يعيد ترتيب رمادها، ويبحث عن شرارة جديدة.

براون يكرر أدواته: العارف المتردد، الزمن المتسارع، المدينة التي تتكلم، والعدو المقنع. لكنه لا يقع في الاستنساخ، بل يحول التكرار إلى طقوس سردية. رواياته لا تُقرأ للحدث، بل لحرارة الأسئلة. في “الرمز المفقود” كتب: الرموز قوة، وربما أخطر من أن تُفهم تماما. أما في “الجحيم” و”الأصل”، فينتقل من أسوار الدين إلى أسئلة العلم والوعي. ويظل الشك هو الخيط الخفي الذي يشد القارئ: الشك في كل شيء، والرغبة المحمومة في المعرفة، والخوف من أن تكون المعرفة نفسها وهما. يقول في “الجحيم”: العقل البشري لا يتحمل فراغ الإجابة، فيملأه بأي شيء، بأي وهم.

ورغم أن دان براون لم يكتب للعرب، فإن ظلاله تسللت إلى بعض الروايات العربية المعاصرة. بدأنا نرى أعمالا تستلهم أدواته: البطل العارف، الزمن الضاغط، المدينة التي تتنفس، والأسئلة التي تفتح أبواب الشك أكثر مما تقدم يقينا. بعض الروايات الشابة حاولت محاكاة إيقاعه اللاهث، وإن لم تبلغ تعقيده الرمزي أو جرأته الفلسفية. ومع ذلك، التأثير حاضر. براون لم يحرك أسئلة الغرب فقط، بل دفع القارئ العربي أيضا إلى أن يتساءل، ولو على استحياء، عن قدسية المعلومة وحدود الحقيقة.

ورغم انتشاره الواسع، لم ينل دان براون التقدير النقدي الكافي في العالم العربي. يُقرأ بشغف، لكن يُناقش بتحفظ. فثقافتنا، رغم تسامحها الظاهري مع الفانتازيا، لا تحتمل بسهولة فكرة أن تكون المعرفة مختلقة، أو أن تُفكك الرموز التي أحاطت بها عقائدنا. القارئ العربي يستمتع ببراون، لكنه يخاف أن يصدقه. يقرأه بين السطور، بحذر.

هوجم براون مرارا: قيل إنه سطحي، مكرر، ساذج في فهمه للرموز، وعبثي في مقاربته للدين. لكنه ظل يكتب، وظل الناس يقرأون. لأنه ببساطة، أدرك ما لم يدركه خصومه: أن العالم جائع إلى المعنى، لكنه أضاع مفاتيحه. ولذلك، لا يصنع أجوبة، بل يصوغ ألغازا كأقفال متشابكة، ويترك القارئ يتوه في مفاتيحها.

عبد الرحمن غوري

عبدالرحمن غوري باحث في الأدب والفلسفة
زر الذهاب إلى الأعلى