بين ابن تيمية والرازي قصة

محمد بن الحسن

كنتُ في أيامٍ مضت قد وطنتُ نفسي على قراءة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، أغوص في عباراته كما يغوص الغواص في لجج البحر يبحث عن الدرر. وما إن تعمقتُ قليلًا حتى لاح لي وجه يتكرر في كتبه، يتسلل من بين الصفحات، كأنما هو شبح لا يبرح مخيلته، إنه الفخر الرازي!
قلت أول الأمر: “لعلها مصادفة عابرة، أو لعله ذكره عرضًا كما يذكر الناس المارة في الطريق”، لكن سرعان ما تبين لي أن المسألة أعمق مما تخيلت، وأعقد من ظنون قارئٍ ساذج.

فتحتُ كتاب “بيان تلبيس الجهمية” متشوقًا، وأنا أمني النفس أن أرى معركة ضروسًا مع طائفة الجهمية وأباطيلهم، فإذا بي أجد في مقدمة الكتاب ما يشبه الاستقبال الملكي لخطبة فخر الدين الرازي، تلك الخطبة التي كتبها مزهواً لأحد ملوك زمانه، يبسط له فيها العقيدة على طريقة المتكلمين، ويأمره أن يدين بها، وكأنما يلقي مرسومًا سلطانيًا لا يقبل النقاش.
هنا لم يتمالك ابن تيمية نفسه، فانبرى له، لا رادًا فحسب، بل كمن يحمل معول النقد ليهدم لبنةً لبنةً من صرح الرازي المتكلف،
وكلما أوغل في الرد، كلما أخذ يقنع القارئ أن مذهب الجهمية الذين طالما أراقوا ماء العقول هو ذاته مذهب الرازي الذي تنكر بثوب “أهل البرهان”، فإذا البرهان عنده أشبه بحصان خشبي مكسور الأرجل.

عند هذه النقطة قلت في نفسي: “لا بأس، لعله خلاف محدود”، لكن الفضول قادني إلى كتاب آخر، “التسعينية”، ذلك الكتاب الذي يرد فيه ابن تيمية على بدعة الكلام النفسي، تفنيدًا وتسفيهًا وتسفيلاً – كل ذلك من تسعين وجهًا!

وأعجب ما هنالك أن الرازي كان يتصدر كل جبهة من جبهات التسعين، كأن ابن تيمية نصبه خصمًا رئيسيًا، لا يكل عن صفعه بالأدلة، ولا يمل من فضح عوار منطقه، حتى لكأن الكتاب في حقيقته دحضٌ مطول لميراث الرازي وحده.  

كنت أتصور أن ابن تيمية ربما، من فرط شغفه بهذا الخصم، أصبح يرى أطياف الرازي في كل بدعة تمر أمام عينيه! ولم أكتفِ بذلك، بل حملني الفضول إلى عظيم كتبه “درء تعارض العقل والنقل”، ويا للهول !  وجدت أن الدافع الأكبر لتأليف هذا السِّفر العظيم هو الرد على قانون الرازي الكلي، ذلك القانون الذي قرر فيه أن العقل إذا خالف النقل، وُجب تقديم العقل مطلقًا، بل دون حتى تردد أو نظر! فقام ابن تيمية، لا مترددًا ولا هيابًا، فقبض على قانون الرازي بيديه، وأخذ يقلّبه ظهراً لبطن، يحلل بنيته، ثم ينقضها نقضاً حتى عاد القانون قاعاً صفصفًا.
بل الأعجب من ذلك أن ابن تيمية استخدم نفس آلة الرازي: المنطق نفسه، الأصول ذاتها، لكنه صاغها بمهارة جراحٍ متمكن، فصار سلاح الخصم يرتد عليه! وهنا توقفت لحظة، وتأملت:  شيخ الإسلام لم يهدم المتكلمين بجديد من عنده، بل ضربهم بسلاحهم، وأذاقهم من نفس الكأس التي كانوا يسقون بها مخالفيهم. 

عندها تيقنت أن ما فعله ابن تيمية هو أشبه بانقلاب داخلي: تمرَّد عقلاني من داخل العقلانية المزعومة، ثورة فكرية من داخل معاقلهم الحصينة.

ولما أدرك المتكلمون المصيبة التي حاقت بهم، ولم يجدوا إلى الرد سبيلاً، ولم تسعفهم الأقيسة ولا الفذلكات الكلامية، لجؤوا إلى أسهل الحيل: الكذب والتشويه.
فبدلًا من مجادلته بالحجة، أشاعوا الأكاذيب، وافتروا عليه التهم، كحال طفلٍ صغيرٍ غلبه خصمه في لعبة الشطرنج، فلم يجد أمامه إلا أن يقلب الرقعة رأسًا على عقب، ويصرخ: “إنه غشاش!”، علّ الناس يصدقون صراخه وينسون هزيمته.

وهكذا ظل ابن تيمية، شاهقًا في حجته، شامخًا في بيانه،وظل بعده من أهل الكلام يعانون من أشباح الردود التي طاردتهم حتى جعلت من كتبهم أطلالاً فكرية، تتقافز فوقها غربان المنطق الأعرج. فانقلب السحر على الساحر، وضاعت الهيبة التي نسجتها بأنامل الكلام .

لماذا الرازي؟

ظل هذا السؤال يتردد في ذهني كلما قلبت صفحات كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، ورأيت كيف أفرد للرازي جُلَّ رده، وجعل من تفنيد أقواله معركة فكرية لا هوادة فيها.

لم يكن الرازي مجرد عالم بين علماء، ولا متكلماً عابرًا في ركب أهل الكلام، بل كان في أعينهم أسطورة خالدة، تاجًا يتلألأ فوق رؤوسهم، وحصناً منيعًا يستظلون بظله كلما اشتدت عليهم سهام النقد.

كان الرازي بحق، “أس الفسطاط” الذي بنيت عليه أبنية الكلام، فمن هدمه فقد قوض تلك الأبنية من أساسها.

قرأ ابن تيمية الواقع بعين الناقد البصير، فلم يشتغل بصغار القوم، ولا غرق في حروب جانبية مع سفاسف الجدال، بل صوب معوله إلى أصل الجدار، إلى لب المسألة، إلى الفخر الرازي، فإذا به يحطم القواعد التي شُيّدت عليها عقول المتكلمين، واحدة تلو الأخرى، حتى إذا هوى الرازي، هوى معه كل من كان يحتمي خلفه من دعاة الكلام، فأصبحوا يتامى حجة، مشردي برهان، يتخبطون فيما بعده كما يتخبط الغريق في لجج البحر بلا سفينة ولا شراع.

ولم يكن ابن تيمية يطعن من خارج الحلبة، بل نازلهم بأسلحتهم ذاتها: العقل، والمنطق، والبرها ن، حتى أذاقهم مرارة السقوط بما ألفوه واستندوا إليه، فكان أثر هدمه للرازي أشبه بهدم نخلة وارفة كانت تستر هشاشة البستان، فلما سقطت النخلة، تكشف ما وراءها من هشيم ويباب.

لهذا، لم يكن الرازي مجرد خصم في معركة فكرية، بل كان هو “الهدف”، وكانت معركته مع ابن تيمية هي معركة هدم أركان مدرسة بأسرها، لا مجرد رد على رجل واحد.

محمد بن الحسن

كاتب وباحث صومالي ، خريج ماجستير في أصول الفقه من الجامعة الإسلامية
زر الذهاب إلى الأعلى