نبيه الزبيدي – تونس
فقط اثنان و سبعون كيلومترا تفصل أقرب الأراضي الإيطالية عن إفريقيا[1] وهو ما جعل العلاقات الإيطالية الإفريقية متميزة و متشعبة على مدى العصور. من التنافس والحروب إلى الدمار و الاستعمار، كانت علاقة إيطاليا بالقارة الإفريقية بين مد وجزر منذ عهد الرومان إلى عهد إيطاليا الموحدة.
الآن، تلتفت إيطاليا مجددا نحو الجنوب و لكن بعقلية جديدة تميزها رغبة في التعاون و بحث عن التكامل. فهل هي مصالحة الجيران الألداء أم مصلحة اقتضاها واقع عالمي جديد و متغير تختلط فيه السياسة بالتاريخ و الجغرافيا.
الإيطاليون يعرفون إفريقيا و خاصة شمالها كما يعرفون بلادهم و أوروبا بالضبط فهم أحفاد الرومان الذين سيطروا على البحر الأبيض المتوسط و ضفافه جاعلين منه بحيرة رومانية.
التاريخ لا ينسى صراعات روما و قرطاج و الحروب البونية المدمرة التي انتهت بانتصار روما و تدمير قرطاج ليس بسبب قوة الرومان و حنكتهم الحربية بقدر الخيانات الداخلية العديدة التي ضربت قرطاج. بعد انتصار روما سيطرت الامبراطورية الرومانية على أغلب أراضي شمال إفريقيا لقرون حتى قدم الفاتحون المسلمون الذين طردوا الرومان و أعادوهم إلى أراضيهم في أوروبا.
و لكي نفهم علاقة إيطاليا بإفريقيا، من المهم أن نقدم لمحة تاريخية توضح نوعية هذه العلاقة التي كانت مبنية على الحروب و المآسي.
- حروب روما و قرطاج:
تُسمى بالحروب البونية وهي سلسلة من الحروب استمرت من سنة 264 ق.م إلى حدود سنة 146 ق.م أي أنها استمرت لأكثر من قرن من الزمان و يُقسمها المؤرخون إلى ثلاث حروب.
استمرت الحرب البونية الأولى من سنة 264 ق.م إلى سنة 241 ق.م و الثانية من سنة 218 ق.م إلى 201 ق.م و كانت بداية النهاية بالنسبة لقرطاج التي اضطرت لدفع تعويضات مجحفة وهروب قائدها حنبعل للعيش في المنفى قبل أن ينتحر بالسم[2]، و الثالثة من 149 ق.م إلى 146 ق.م وانتهت بتدمير قرطاج و نهبها و قتل معظم سكانها و استحواذ الرومان على أراضيها.
- الإحتلال الإيطالي لبعض المناطق في إفريقيا:
دخلت إيطاليا الساحة الاستعمارية بصفة متأخرة مقارنة بالقوى الاستعمارية الأوروبية الأخرى. ورغم ذلك يُعتبر الاحتلال الإيطالي من أعنف و أسوأ أنواع الاستعمار التي شهدها العالم في القرون الأخيرة.
يعود تأخر إيطاليا في اللحاق بركب الدول الاستعمارية إلى ظهورها الحديث على الساحة الدولية كدولة موحدة فقد كانت مقسمة بين عديد القوى التي تحكم كل واحدة منها مساحة جغرافية محدودة و يعود الفضل في توحيد الأمة الإيطالية إلى الأب الروحي لإيطاليا “جوزيبي غاريبالدي” الذي بدأ حروب التوحيد سنة 1861 مؤمنا بأن التشتت سبب الضعف و أن أمجاد روما لن تعود إلا بالتوحد تحت راية حكم مركزي.
هذه الأسباب جعلت اختيارات إيطاليا محدودة، عندما أبدت رغبتها في الانضمام للنادي الاستعماري في أواخر القرن 19، حيث كانت أغلب أراضي إفريقيا ترزح تحت الاحتلال الأوروبي. كان الاستعمار الإيطالي يهدف إلى تحقيق هدفين اثنين في آن واحد، الأول أن تحصل على موارد و ثروات جديدة تنعش خزائنها و الثاني أن تتجاوز عقدة النقص التي أصابتها بعد أن نهب جيرانها الأوروبيون كل ثروات العالم من أمريكا إلى أستراليا مرورا بإفريقيا و آسيا.
كان الخطاب الرسمي الذي تروجه الحكومة الفاشية الإيطالية (بداية من سنة 1922 عند وصول بينيتو موسوليني للحكم) لشعبها حتى تكتسب دعمه أنها تسعى لجلب الحضارة و التحضر لإفريقيا المتخلفة التي تمتلك ثروات ضخمة وغير مستغلة حسب ادعائها.
بداية الاستعمار الإيطالي كانت انطلاقتها باحتلال أريتريا سنة 1889 ثم توسع ليشمل جنوب الصومال. بعد ذلك جاء الغزو الإيطالي لليبيا، آخر معاقل الدولة العثمانية في القارة الإفريقية، سنة 1911 ليُستكمل بإخضاع أثيوبيا سنة 1935 (بعد محاولة فاشلة سنة 1895). لم يدم الاحتلال الإيطالي لأثيوبيا سوى ست سنوات حيث تمت خسارتها سنة 1941 بعد المتغيرات التي ضربت العالم بأسره بسبب الحرب العالمية الثانية و التي أدت في نهاية المطاف إلى خسارة إيطاليا لكل مستعمراتها الإفريقية حيث فقدت الأراضي التي استولت عليها في شرق إفريقيا سنة 1941[3] و كان خروجها من ليبيا سنة 1943.
- التواجد الإيطالي في إفريقيا:
تواجد العنصر الإيطالي في القرون القليلة الماضية في شمال إفريقيا ملحوظ و خاصة في تونس والجزائر حيث عمل العديد من الماليك الإيطاليين، المختطفين من سواحل الممالك الإيطالية على يد القراصنة الأتراك و قراصنة شمال إفريقيا، في بلاطات حكام تونس والجزائر من البايات والدايات. و إلى الآن لا تزال ألقاب العديد من العائلات تشهد على أصولها الإيطالية وعلى المهن التي كانت تشغلها في قصور هؤلاء الحكام.
بعد توحيد إيطاليا وإعلانها مملكة في 17 مارس 1861 بدأت الهجرة الاقتصادية للإيطاليين نحو شمال إفريقيا و خاصة تونس شيئا فشيئا فمن حوالي عشرة آلاف إيطالي يعيشون بتونس قبل سنة 1881 ارتفع عددهم ليتجاوز المائة ألف في بداية القرن العشرين. وقد كان التواجد الكبير للإيطاليين بتونس يزعج السلطات الاستعمارية الفرنسية هناك بسبب الأطماع الإيطالية القديمة وتنافسها مع الفرنسيين لاحتلال تونس في أواخر سنوات العقد السابع من القرن 19. إلى حدود سنة 1931 كان عدد الإيطاليين يتجاوز عدد الفرنسيين في الإيالة التونسية و يرجع ذلك إلى القرب الجغرافي و إلى العلاقات التي تربط البلدين و الشعبين منذ آلاف السنين.
كما كان التواجد الإيطالي بالجزائر مهما تحت سلطة الاحتلال الفرنسي فقد فاق عددهم الأربعة والأربعين ألفا سنة 1886 لينخفض بعد ذلك تدريجيا ويضمحل تقريبا بعد استقلال الجزائر سنة 1962. أما بالنسبة للمغرب الأقصى فقد كان التواجد الإيطالي متواضعا فلم يكن عددهم يتجاوز بالكاد الألف نسمة مع دخول الاستعمار الفرنسي لهذا البلد سنة 1912 و بقي عددهم يتأرجح بين زيادة و نقصان بنسب متفاوتة و لكن ضئيلة بصفة عامة. أما بخصوص مصر فقد كان التواجد الإيطالي ضعيفا مقارنة بباقي بلدان شمال إفريقيا و لكنه ليس منعدما وقد برزت بعض الشخصيات المشهورة المصرية و التي تعود أصولها إلى إيطاليا.
و في باقي دول إفريقيا التي لم تخضع للاستعمار الإيطالي فيُعتبر تواجد الإيطاليين في أواخر القرن 19 و بدايات القرن 20 شبه منعدم و ذلك لثلاثة عوامل مهمة وهي:
+ البعد الجغرافي
+ انعدام المحفزات الدافعة للإيطاليين للسفر و الاستقرار بهذه المناطق
+ توجه الإيطاليين للهجرة نحو البلدان الأوروبية الغنية في ذلك الوقت كفرنسا و بلجيكا و المملكة المتحدة و هولندا وخاصة نحو بلدان العالم الجديد كأستراليا و الولايات المتحدة الأمريكية والبرازيل و الأرجنتين و كندا
أما بالنسبة للمستعمرات الإيطالية في إفريقيا فالأمر مختلف تماما فقد كانت الدولة الإيطالية تعمل على نقل المستوطنين الإيطاليين لهذه البلدان مع إعطائهم امتيازات مادية و عينية عديدة كتملك الأراضي الفلاحية و إنشاء الشركات والحصول على مناصب عليا ورواتب مغرية وبهذه الطريقة تجاوز عدد الإيطاليين بأريتريا عتبة الـ 76 ألفا سنة 1939 ليتناقص بعد ذلك تدريجيا. وفي الصومال بلغ عدد الإيطاليين أوجه سنة 1945 ليصل إلى 50 ألف مستوطن ليبدأ بعد ذلك في التناقص شيئا فشيئا. ومثل أريتريا بلغ التواجد الإيطالي في ليبيا أوجد سنة 1939 ليصل إلى حوالي 120 ألف مستوطن مشكلين قرابة الـ 14% من مجموع سكان البلاد و قد يعود ذلك خاصة لقرب ليبيا الجغرافي من السواحل الإيطالية.
بصفة عامة و بداية من سنة 1936 و إلى حدود سنة 1941 عندما سيطرت إيطاليا على أراض شاسعة في شرق إفريقيا من أريتريا إلى الصومال مرورا بأثيوبيا بلغ عدد الإيطاليين في هذه المنطقة حوالي 300 ألف مستوطن لم يتبقى منهم اليوم إلا بضع مئات.
وهنا يمكن القول أن إيطاليا قد دفعت غاليا ثمن اصطفافها مع ألمانيا و بقية دول المحور في بداية الحرب العالمية الثانية حيث تمت معاقبتها بشدة من قبل الدول المنتصرة و خسرت نفوذها في القارة الإفريقية. وهو ما دفع بالمستوطنين الإيطاليين إلى مغادرة الأراضي التي كانت خاضعة لحكم بلادهم سواء نحو وطنهم الأم أو نحو بلدان هجرة جديدة و خاصة في قارات العالم الجديد.
- إيطاليا بلد الهجرة و المهاجرين:
كانت إيطاليا و على مدى العصور أرض استقبال للمهاجرين من كل الألوان و الأديان والأجناس و ذلك لعدة أسباب منها موقعها الجغرافي المتميز في قلب العالم القديم و جمال طبيعتها وخصوبة أراضيها و اعتدال مناخها بصفة عامة إضافة إلى ثرائها و تقبل سكانها للآخر في أغلب الأحيان.
شهدت الهجرة نحو إيطاليا في العصر الحديث أوجها سنة [4]1973 مع تقدم البلاد الصناعي والتكنولوجي و حاجتها الملحة، كأغلب البلدان الأوروبية الصناعية، لليد العاملة المؤهلة وحتى غير المؤهلة للعمل في قطاعات الفلاحة و الصيد البحري و الصناعة و الخدمات. أغلب هذه الهجرات كانت من بلدان العالم الثالث في ذلك الوقت و خاصة من بلدان شمال إفريقيا و بلدان إفريقيا جنوب الصحراء و بلدان شبه القارة الهندية إضافة إلى ألبانيا.
بعد ذلك بدأت جنسيات المهاجرين نحو إيطاليا تتنوع فجاء اليوغوسلاف[5] و الرومانيون و الصينيون و الأتراك و كثير من سكان جنوب شرق آسيا و دول وسط و جنوب إفريقيا و حتى سكان العديد من بلدان أمريكا الجنوبية و الوسطى.
استغل الرومانيون دخول بلادهم إلى فضاء الاتحاد الأوروبي سنة 2007 و حرية تنقلهم إلى باقي بلدان هذا الاتحاد ليحتلوا المرتبة الأولى في عدد الأجانب بإيطاليا متجاوزين الألبان الذين حلوا في المركز الثاني بفارق كبير و ذلك حسب إحصائيات سنة 2024. و قد جاء المغاربة في المركز الثالث و الصينيون في المركز الرابع و الأوكرانيون في المركز الخامس متأثرين بالحرب التي تدور رحاها في بلادهم مع القوات الروسية الغازية منذ سنة 2022.
إفريقيا، تأتي المغرب في المركز الأول متجاوزة مصر و نيجيريا و السنغال و تونس التي تراجعت كثيرا بعد أن كان مواطنوها من أكثر الأجانب المهاجرين نحو أوروبا و خاصة فرنسا و إيطاليا. و قد بدأت هجرة التونسيين بأعداد كبيرة نحو إيطاليا في أواخر خمسينيات القرن العشرين أي بعد سنوات قليلة من استقلال البلاد. كما لا ننسى أن أعدادا كبيرة من التونسيين و بقية بلدان شمال إفريقيا و خاصة الجزائريين و المغاربة يعيشون في إيطاليا بطرق غير شرعية وبدون وثائق إقامة صالحة و بلا أوراق ثبوتية أصلا وهو ما يجعل عددهم الحقيقي أكثر بكثير مما هو معلن رسميا من قبل السلطات الإيطالية. أما عن باقي المهاجرين المقيمين بطريقة شرعية و في مراتب متأخرة نسبيا و لكنها هامة عدديا نجد مواطني غانا و كوت ديفوار و غامبيا و مالي و الجزائر.
و الآن، تواصل إيطاليا استقطاب المهاجرين من كل أصقاع العالم و ذلك لحاجة اقتصادها الملحة لليد العاملة الماهرة و خاصة بعد الطفرة الاقتصادية الكبيرة التي شهدتها الصناعات الإيطالية بمختلف أنواعها ففي سنة 2024 تجاوزت إيطاليا اليابان لتصبح رابع أكبر دولة في العالم من حيث الصادرات[6]. و يعود الفضل في هذا التطور الملحوظ إلى فخر الصناعات الإيطالية و المتمثلة في الصناعات الصيدلية و الأدوية و السيارات و خاصة الفاخرة منها إضافة إلى الآلات الصناعية و الطبية و آلات النسج و الخياطة و سفن الشحن و نقل المسافرين. كما تُعتبر إيطاليا رائدة عالميا في كثير من الصناعات الفاخرة غالية الثمن و الموجهة أساسا إلى النخب الثرية في كثير من بلدان العالم كصناعة العطور و الساعات و الحلي و الإكسسوارات بأنواعها و النظارات و الملابس الفاخرة و الجلود و الأحذية و اليخوت و الأجبان و النبيذ و الشوكولاتة دون أن ننسى بأن إيطاليا تُعتبر من الدول المهمة عالميا في صناعة و تصدير الأسلحة و الزوارق الحربية و طائرات الاستطلاع و التجسس.
كما يجب ذكر تنوع المنتجات الفلاحية الإيطالية و جودتها العالية التي تجعلها تدر أموالا طائلة عند تصديرها مثل منتجات الصيد البحري و اللحوم و الحليب و زيت الزيتون و العسل و القوارص و الخضر و الغلال و الفواكه الجافة و الحلزون البري. و تصدر إيطاليا العديد من منتجات الصناعات الغذائية بأنواعها و خاصة المعجنات التي تشتهر بها البلاد إضافة لمعجون الطماطم و الطماطم المجففة و غيرها.
أكبر حرفاء الصادرات الفلاحية و المواد الغذائية الإيطالية هم جيران إيطاليا الأوروبيون كسويسرا و فرنسا و النمسا وألمانيا و إسبانيا بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية و أستراليا و بعض بلدان الخليج العربي. و في السنوات الأخيرة اكتسحت البضائع الإيطالية أسواقا جديدة في إفريقيا و أمريكا الوسطى و شرق آسيا.
نتيجة لكل هذا التطور في الاقتصاد الإيطالي و خاصة للحاجة الملحة لليد العاملة الماهرة والمؤهلة لدعم صناعاتها قامت إيطاليا بتوقيع عدة اتفاقيات مع بلدان من خارج دول الاتحاد الأوروبي[7] لاستقطاب مهاجرين جدد في قطاعات تشهد نقصا في البلاد كالصحة و الفندقة و الفلاحة و البناء و النقل و الصناعات بمختلف أنواعها. كما باتت إيطاليا من الدول المستقطبة لمهندسي الإعلامية و المختصين في التكنولوجيات الحديثة و ذلك بعد أن استثمرت الحكومات المتتابعة أموالا ضخمة لدعم البحث العلمي. و تسعى إيطاليا لاستقطاب 165 ألف مهاجر جديد سنة 2025.
- العلاقات الإيطالية الإفريقية:
منذ عهد الرومان كانت العلاقات الاقتصادية بين روما و إفريقيا متطورة و كان التبادل التجاري بينهما يرتكز أساسا على المنتجات الفلاحية و خاصة الحبوب و زيت الزيتون.
في العصور الحديثة تطورت العلاقات الإيطالية الإفريقية أكثر فأكثر و أصبحت ذات أهمية استراتيجية و خاصة مع دخول الاستعمار الإيطالي لبعض البلدان الإفريقية فأصبحت البضائع الإيطالية المصنعة موجودة في هذه البلدان حيث سعى الإيطاليون إلى نشر ثقافتهم و طريقة عيشهم من لباس و عادات غذائية عن طريق توفير منتجاتهم بكثرة بين الشعوب المحلية. في نفس الوقت كان الإيطاليون يستولون على ثروات مستعمراتهم من مواد أولية و غيرها ليرسلوها إلى بلادهم حيث قاموا باستغلال فاحش للثروات الباطنية و الطبيعية التي كانت متوفرة بكثرة في مستعمراتهم.
بعد استقلال البلدان الإفريقية من الاستعمار الأوروبي شهدت العلاقات الإيطالية مع بلدان إفريقيا تغيرا جذريا و انطلقت روما نحو تعزيز التعاون الاقتصادي مع هذه البلدان مركزة على الاستثمار والتبادل التجاري بدلا من الهيمنة العسكرية أو السياسية.
تستثمر إيطاليا الآن في عدة قطاعات مثل الطاقة و البنية التحتية و الصناعة والزراعة كما تلعب الشركات الإيطالية دورا بارزا في مشاريع التنمية المستدامة و خاصة في مجالات الطاقات المتجددة و التكنولوجيا. تفوق الاستثمارات الإيطالية في إفريقيا 30 مليار دولار سنويا وهي تُعتبر سلاحا فعالا تستعمله روما في علاقتها المباشرة مع البلدان الإفريقية فمن جهة أولى تنافس إيطاليا بقية القوى العالمية الأخرى التي فهمت منذ زمن طويل بأن إفريقيا هي الكنز الموعود وهي القارة التي مازالت تعج بالموارد و الثروات و بأن الاستثمار فيها يدر مرابيح خيالية قد تفوق بكثير المرابيح التي يمكن جنيها في بقاع أخرى من العالم و من جهة ثانية تسعى إيطاليا لإيجاد حلول جذرية للمشاكل التي تعاني منها بسبب الهجرة غير الشرعية و أضرارها على المجتمع و الاقتصاد الإيطاليين حيث شهدت البلاد ارتفاعا في مستوى الجريمة و التهرب الضريبي نتيجة للعمل في الاقتصاد الأسود و ما يوفره هذا الأخير من موارد مالية ضخمة للمافيا الإيطالية.
يرى الساسة الإيطاليون أن الاستثمار المباشر و خلق مواطن عمل قارة في البلدان الإفريقية سوف يشجع شباب هذه البلدان على البقاء و الاستقرار في بلدانهم و التخلي عن فكرة الهجرة غير الشرعية عبر البحر و مخاطرها المتعددة.
في يناير 2024 و خلال القمة الإيطالية الإفريقية المشتركة التي دارت بروما أعلنت إيطاليا عن خطة “ماتي”[8] للتنمية في إفريقيا وهي خطة استراتيجية بقيمة 6 مليار دولار تغطي خمسة قطاعات رئيسية وهي التعليم و التكوين، و الصحة و الطاقة و المياه و الزراعة.
إضافة إلى بلدان شمال إفريقيا القريبة جغرافيا و تاريخيا من إيطاليا فإن أكبر البلدان الإفريقية المستفيدة من الاستثمارات الإيطالية هي جنوب إفريقيا و نيجيريا و تنزانيا و أنغولا و غانا و السنغال.
تُعتبر تونس و المغرب و جنوب إفريقيا أكبر الشركاء التجاريين الأفارقة لإيطاليا و في نفس الوقت تسعى هذه الأخيرة إلى العودة إلى القرن الإفريقي كلاعب أساسي و خاصة بعد الاكتشافات النفطية و الغازية الضخمة بالمنطقة فقد أُعطيت الأولوية في برامج التعاون الإيطالي من 2021 إلى 2023 إلى كل من الصومال و كينيا و أثيوبيا و السودان.
و حتى تستطيع إيطاليا منافسة القوى الدولية و الإقليمية التي سبقتها إلى الولوج للأسواق الإفريقية كالصين و الولايات المتحدة الأمريكية و فرنسا و تركيا و الهند فإنها تسعى إلى التعاون مع بعض بلدان الخليج الغنية و تطمح إلى إقناعها بمشاركتها في بعض المشاريع و الاستثمارات في القارة السمراء.
تريد إيطاليا الولوج أيضا إلى البلدان الإفريقية الفرنكوفونية التي سئمت من سياسة فرنسا الإفريقية و قررت أخيرا التخلص من العباءة الفرنسية التي بقيت تكتم أنفاس هذه البلدان اقتصاديا و ثقافيا و سياسيا مواصلة في استعمال سياسة استعمارية بغيضة لنهب ثرواتها معتمدة على العملة الموحدة (الفرنك الإفريقي) و ارتباطها بالبنك المركزي الفرنسي الذي يسطر السياسات المالية للبلدان التي تستخدم هذه العملة و القواعد العسكرية الفرنسية في القارة و المنظمة الدولية للفرنكوفونية. وبعد الأحداث الأخيرة في مالي و النيجر و بوركينا فاسو و قبلها في رواندا و بداية السقوط الفرنسي في إفريقيا تحاول إيطاليا تقديم نفسها كبديل موثوق يعوض القوى الاستعمارية المتخلية و خاصة فرنسا و بريطانيا مستغلة تاريخها غير المشوه مع أغلب البلدان الإفريقية و تقديمها لبدائل تنموية و اقتصادية تعامل الأفارقة على قدم المساواة مع باقي شعوب العالم.
- سياسة إيطاليا الإفريقية: اقتصاد و استثمار و دبلوماسية
الاقتصاد و الاستثمار هما العمود الفقري لسياسة إيطاليا في إفريقيا حيث تريد روما الحصول على موطئ قدم جديد سواء في مستعمراتها السابقة أو في بلدان بعيدة لم تكن تلتفت إليها في الماضي.
انخرطت شركات صناعة السيارات الإيطالية و مكوناتها في مشروع حكومة بلادها الساعي لخلق مواطن شغل مباشرة في بعض البلدان الإفريقية لدعم الاستقرار الاقتصادي و الاجتماعي و التقليل من أعداد المهاجرين غير الشرعيين القادمين عبر البحر الأبيض المتوسط. و من هذه المشاريع مصانع شركة “سوجيفي” لمكونات السيارات في المغرب و مصانع شركة “فيات” الشهيرة للسيارات في الجزائر و جنوب إفريقيا و مصر إضافة إلى عديد مصانع تركيب السيارات الإيطالية في عدة بلدان مثل كينيا و المغرب و نيجيريا و تونس.
كما تنتشر العديد من المصانع الإيطالية على اختلاف منتجاتها في ربوع إفريقيا و خاصة مصانع الخياطة و النسيج و الجلود و الأحذية و الالكترونيات و غيرها و منها مصنع “زوباس” بتونس المختص في صناعات تكنولوجيات التدفئة الحرارية و مصنع “أوليفيرو” بالسنغال المختص في آلات التشغيل الآلي و مصنع « Cassava Flour Technolgy » بغينيا الإستوائية المختص في إنتاج دقيق الكاسافا.
ومن جهة أخرى تعمل إيطاليا جاهدة على الاستثمار في الطاقات المتجددة و النظيفة بالاشتراك مع بعض البلدان الإفريقية و منها مشاريع إنتاج الطاقة عبر الألواح الشمسية و مشروع إنتاج الهيدروجين الأخضر في تونس و الجزائر ومصر و مشروع إنتاج الطاقة من الرياح في المغرب.
و من هذا المنطلق تولي إيطاليا اهتماما متزايدا بتعزيز حضورها في إفريقيا سياسيا و دبلوماسيا وحتى ثقافيا و ذلك من خلال استراتيجية شاملة بدأت باستضافة القمة الإيطالية الإفريقية و انتهاء بتوقيع اتفاقيات تمويل مشتركة مع بنك التنمية الإفريقي.
تريد إيطاليا أن تكون بديلا يستجيب لقواعد التنافس الجيوسياسي في القارة و في حقيقة الأمر تحظى هذه الجهود بدعم من أغلب بلدان الاتحاد الأوروبي و خاصة ألمانيا و بلدان شمال أوروبا التي تُبدي قلقا جديا متزايدا من توسع النفوذ الروسي و الصيني و التركي في إفريقيا و ترغب في إيجاد حلول جذرية للهجرة غير النظامية حيث تهدد جحافل المهاجرين القادمين من الجنوب تركيبتها السكانية الهشة.
تغطي السفارات الإيطالية معظم بلدان القارة الإفريقية وهي من البلدان القليلة في العالم التي تمتلك سفارات وبعثات دبلوماسية في كل بلدان القرن الإفريقي بلا استثناء و منها أريتريا المستعمرة الإيطالية القديمة المنغلقة والتي تُعد من أقل بلدان العالم من حيث وجود البعثات الدبلوماسية الأجنبية على أراضيها. و من جهة أخرى تمتلك أغلب البلدان الإفريقية سفارات في روما.
ثقافيا يُعتبر المركز الثقافي الإيطالي و المركز الدولي لدراسة و صون و ترميم الممتلكات الثقافية[9] ذراعي روما لتقوية علاقاتها الثقافية بالقارة الإفريقية حيث عقد هذا الأخير بمقره بروما في أبريل 2024 مؤتمرا دوليا يخص التبادل الثقافي و تبادل الأعمال و يهدف إلى تنمية الروابط و تعزيز التعاون بين إيطاليا و الدول الإفريقية في مجالات إدارة التراث الثقافي و ريادة الأعمال الإبداعية و ذلك بمشاركة شباب أفارقة من 9 بلدان من بلدان جنوب الصحراء. كما يعمل هذا المركز على تقديم هبات سخية لترميم العديد من المعالم التاريخية و الأثرية و الثقافية مع الدعم التقني من خبراء إيطاليين أكفاء وهو ما حدث في كل من تونس و مصر و عديد البلدان الإفريقية الأخرى.
و من جهته يقدم المركز الثقافي الإيطالي دورات تكوينية في اللغة الإيطالية و غيرها لفائدة العديد من الشبان الأفارقة وهو يعمل على تقديم صورة ناصعة لإيطاليا و ثقافتها و يحظى بتمويل مباشر و سخي من الحكومات الإيطالية على اختلاف توجهاتها السياسية.
استخدام إيطاليا للقوة الناعمة في علاقتها الجديدة مع بلدان القارة الإفريقية لم يمنعها من دعم التعاون العسكري و حتى من الوجود العسكري المباشر في قواعد عسكرية إيطالية في بعض المناطق الإفريقية و ذلك ضمانا لسلامة تجارتها الدولية التي تمر عبر أماكن تشهد توترات جدية بين الحين و الآخر مثل مضيق باب المندب الذي يفصل شرق إفريقيا عن شبه جزيرة العرب و أيضا لحماية مصالحها في قارة تشهد نزاعات و انقلابات عسكرية أكثر بكثير من باقي قارات العالم.
و في هذا السياق تمتلك إيطاليا قاعدة عسكرية في جيبوتي تأسست سنة 2013 و تُعتبر أول تواجد عسكري إيطالي رسمي خارج أوروبا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية و تُستخدم هذه القاعدة التي تضم 300 جندي لمكافحة القرصنة و الإرهاب و مراقبة حركة الملاحة البحرية. كما تنشر إيطاليا 250 جنديا في النيجر منذ سنة 2018 تحت مسمى مهمة الدعم الثنائي حيث تقوم على تدريب قوات الجيش النيجري و مراقبة الحدود للحد من الهجرة غير الشرعية و حاليا تُعتبر إيطاليا الشريك الغربي الوحيد الذي ينشر قوات عسكرية في النيجر بعد خروج القوات الفرنسية و الأمريكية و الألمانية بعد الأحداث الأخيرة التي شهدتها نيامي.
و من جهة أخرى تتعاون إيطاليا عسكريا و تقدم دعما لوجستيا لبلدان شمال إفريقيا و خاصة تونس و ليبيا للحد من الهجرة غير النظامية. كما أنها وقعت سنة 2019 اتفاقية تعاون في مجال الدفاع مع أثيوبيا لتبادل الخبرات و التدريبات المشتركة و دعم عمليات حفظ السلام و تعزيز الخدمات و الأبحاث الصحية العسكرية. و شاركت إيطاليا في تدريب قوات الشرطة الصومالية من خلال مهمة “مياديت” التي تدعم بناء و تطوير قدرات الأمن المحلي. و في شهر مارس 2024 أعلن وزير الدفاع الإيطالي أن بلاده مهتمة بتوقيع اتفاق عسكري مع أسمرة لتكون خطوة ذات أهمية استراتيجية قصوى.
و من الناحية الاستخباراتية يوجد تعاون إيطالي وثيق مع بعض الأطراف الليبية لمراقبة السواحل و مراكز احتجاز المهاجرين غير النظاميين و تعاون مع كل من السنغال و بوركينا فاسو و تشاد و موريتانيا لمكافحة الإرهاب و التهريب و الجريمة المنظمة بأنواعها.
رغم كل الجهود التي تبذلها إيطاليا لكي تكون لاعبا رئيسيا في القارة الإفريقية فإن مساعيها تبقى قابلة للتطوير و ذلك من خلال التعامل مع شركاء موثوقين من بلدان القارة نفسها لأن الاستثمارات الإيطالية لوحدها لن تكون قادرة على منافسة التنين الصيني و لو أن الحرب التجارية الجديدة التي أعلنها الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” على بكين قد تغير العديد من الحقائق و منها العلاقات الصينية الإفريقية.
التوجه نحو مشاركة بلدان الخليج العربي للاستثمار في أماكن أخرى من إفريقيا يمكن أن يكون حلا بالنسبة لإيطاليا و لكنه ليس بالحل المستدام و ذلك لارتباط هذه البلدان تاريخيا و سياسيا بقوى دولية أخرى منافسة كالولايات المتحدة الأمريكية و بريطانيا. و من الحلول الأخرى المتاحة للإيطاليين التعاون الثنائي المباشر مع بلدان القارة التي تمتلك تاريخا استثماريا و علاقات راسخة في إفريقيا إضافة إلى الإمكانيات المادية الضخمة مثل ليبيا و جنوب إفريقيا ونيجيريا.
كما يلعب التاريخ المشترك بين إيطاليا و شمال إفريقيا إضافة إلى مستعمراتها الإفريقية السابقة دورا مهما لمزيد بعث فروع للشركات الإيطالية في هذه البلدان. و السؤال الذي يطرح نفسه هل ستواصل الحكومات الإيطالية القادمة التفاتها نحو إفريقيا و دعمها للاستثمار في بلدانها إذا ما فاز اليسار الإيطالي في الانتخابات القادمة المقررة سنة 2027.
[1] أقرب مسافة بين إفريقيا و إيطاليا هي 72 كم وهي المسافة بين مدينة قليبية التونسية و جزيرة بانتالاريا الإيطالية و التي كانت تُسمى “بنت الرياح” تحت الحكم العربي الإسلامي
[2] حسب الرواية المتداولة و التي يشكك العديد من المؤرخين في حقيقتها
[3] استمر الاحتلال الإيطالي لأريتريا رسميا إلى سنة 1947 عنما فقدتها نهائيا لصالح الإنجليز المنتصرين في الحرب العالمية الثانية مع باقي دول الحلفاء
[4] وهي السنة الأخيرة في “السنوات الثلاثين المجيدة” التي بدأت سنة 1945 مع نهاية الحرب العالمية الثانية و انتهت سنة 1973 مع الأزمة البترولية العالمية التي كانت بدورها نتيجة للصراعات التي كانت تدور في الشرق الأوسط بين البلدان العربية و الكيان الصهيوني
[5] مواطنو جمهورية يوغوسلافيا الاشتراكية التي تفككت سنة 1992 بعد حرب أهلية دامية، و اليوم أصبح هذا الكيان مقسما بين 7 دول مستقلة هي صربيا و البوسنة و الهرسك و كرواتيا و مقدونيا و سلوفينيا و الجبل الأسود و كوسوفو
[6] ترتيب الخمسة الأوائل من حيث قيمة الصادرات: الصين، الولايات المتحدة الأمريكية، ألمانيا، إيطاليا و اليابان
[7] تقوم إيطاليا عن طريق سفاراتها في الخارج و مؤسساتها التي تُعنى بالتعاون الدولي بتنظيم دورات مكثفة لدراسة اللغة الإيطالية بصفة مجانية للشبان الحاملين لشهادات تكوين مهني في أحد الاختصاصات المطلوبة و الذين يرغبون في العمل بإيطاليا
[8] نسبة إلى “إنريكو ماتي” سياسي و صناعي إيطالي مستثمر في قطاع النفط 1906-1962
[9] ICCROM