السودان والإعلام الإفريقي/ “بين قديمٌ لا يريد أن يبتعد، وجديدٌ لا يريد أن يولد”.

هناك حكمة إفريقية قديمة تعود لقبيلة “Bariba” في مملكة داهومي العريقة “بنين حالياً” تقول “بغض النظر عن إقتصاد الغابة، فإن الأسد لن يأكل العشب أبداً” .

بعد حرب مليشيا الدعم السريع لإسقاط الدولة الوطنية السودانية في ١٥-أبريل -٢٠٢٣  بخمسة أشهر جمعني لقاءاً مطولاً مع مجموعة من الباحثين الأفارقة في أقصى الغرب الإفريقي والمتخصصين فيما يطلق عليه بالفرنسية “Les formes des États” وتعني باللغة العربية “أشكال الدول” ورغم أن حديثنا كان يتعلق حول التطورات السياسية والأمنية وأثرها المستقبلي في منطقة خليج غينيا، إلا أن الحوار أخذ منحى أخر عندما تم طرح ملف الأزمة السودانية وكيف لفصيل عسكري يرفع السلاح في وجه المؤسسة العسكرية الوطنية ويسعى لإسقاط الدولة السودانية من الداخل، ورغم إزدحام القاعة بوسائل الإعلام الإفريقية وبعض القنوات الفرنسية، إلا إنني نجحت في إصطياد ملامح  الحاضرين التي كساها الترقب وخالطها الرجاء الصامت المشبع بالإهتمام لمعرفة حقيقة ما يجري في السودان، فوجدتها فرصة ثمينة لتنبيه الإعلام الأفريقي ولومه على تقصيره في تناول الأزمة السودانية وعدم تخصيصه لمؤتمرات وندوات خاصة تتناول فيه دور المليشيات الخارجة عن القانون في تقويض الدولة الوطنية في إفريقيا خاصة أن القارة الإفريقية ومنذ عام ٢٠٢٠ بدأت تعيش موجات حقيقية من التحرر الوطني ولابد من وأد كل ما يعرقل ذلك وإقباره في مهده.

وفيما يلي نص حديثي في مؤتمر التطورات السياسية والأمنية في خليج غينيا “في بداية حديثي أؤكد للحضور الكريم أن الحرب الدائرة في السودان مهما طال أمدها، ومهما تواصل تغذيتها ظناً منهم بأنه طريق سالكاً لإنهاك الدولة السودانية فلن تنتهي إلا بإنتصار الدولة الوطنية في السودان، وإنتهاء مشروع مليشيا الدعم السريع إلى غير رجعة، وأنا هنا أتحدث من باب علمي ومهني ومعرفي بطبيعة الشعب السوداني الذي ساقني القدر لمعرفته عن قرب ومعرفة تركيبته الداخلية،   فالسودانيون لمن لا يعرفهم شعبٌ مجبول منذ فجر التاريخ على أربعة طباع: (حزم الفعل، إستذكار النصر، إخفاء الغبن، ترجمة النشوة)، ويكفي للمرء منا أن يأخذ جولة صامته في ملامح ومحاجر عيون أي مواطن سوداني عندما يأتي الحديث حول حادثة الجنرال “تشارلز غوردون” قائد الجيش البريطاني في الخرطوم الذي قُتل على يد المهدية، ليتأكد بأن إستذكار النصر وجذوة النشوة لم تنطفىء منذ عام 1885م (وهو العام الذي قتل فيه غوردون) حتى اليوم، وجذوة الغبن المصحوبة بالقهر لم يخفت لهيبها بإغراق أعظم حضارات العالم “حلفا القديمة” عام 1964 وإنتزاع حلايب من جذورها السودانية عام 1992 وما زالت تلك الجذوة تتحين الفرصة  لإقتناص  حقها، ورباطة الجأش المصاحبة لحزم الفعل لم تجد ملاذاً لتأوي إليه إلا في صدور الشعب.

نعم يعيش السودان اليوم ظرف دقيق بل بالغ الدقة لم يشهده السودان في تاريخه الحديث، فالسودان مستهدف كوطن وكسيادة والمرمى هو السطو على ثرواته وتقسيم أراضيه، وإن كان هذا المخطط أو المشروع لتقسيم السودان إلى دول مطروحاً في دهاليز أجهزة المخابرات الدولية منذ عقود إلا أن ذات الأجهزة ستلتحفها قريباً قناعة تامة بأن مشروعها لم يعد صالحاً للتنفيذ في ذات البيئة التي تعيشها السودان اليوم، وهذا شأن يُترك النقاشُ فيه لأبناء المقرن فهم وحدهم الأجدر بالحديث عنه لما شهدوه من أخطاء وكوارث أنظمة سابقة، وهم الأعلم بما قدموه وسيقدمونه مستقبلاً منعاً لتكرار سيناريو ٢٠١١ والذي إنتهي بإنفصال الجنوب.

أما مسألة أن هناك توافق ضمني على تقسيم السودان إلى دول، وقرب إعلان  دارفور دولة مستقلة لمليشيا آل دقلو فهذا ضرب من الخيال، ووحدها الأطراف الدولية الفاعلة في المشهد السوداني تُدرك النتائج الكارثية التي ستنعكس على مستقبل كافة الأنظمة السياسية الإفريقية إذا حدث ذلك، ناهيك عن عدم قدرتها على تحمل تكاليف ظهور دول جديدة في قارة باتت المصلحة الدولية فيها مرتبطة بمدى إستقرار أنظمتها السياسية ضماناً لتدفق الموارد، فأفريقيا اليوم ليست أفريقيا أمس، وهذه نقطة قالها ذات مره أحد المستشارين الأمنيين الفرنسيين للرئيس السابق نيكولا ساركوزي  “لا تقرأ مذكرات جاك فوكار، إنتهى زمنه وإنتهت معه أفريقيا التي كان يراها، أفريقيا اليوم مختلفة ويجب علينا الإعتراف بذلك” .

أما المراهنة على تولي قائد المليشيا حكم السودان هو رهان خاسر وإن كانت بعض الأطراف الدولية والإقليمية راهنت في وقت ما على ذلك إلا إنها ستدرك قريباً فداحة رهانها الخاسر ” وهذا ما أثبتته الأحداث اليوم”، وأنا هنا أدعوا كل طرف إقليمي أو دولي تورط في ملف الأزمة السودانية سلباً وأتخذ موقفاً داعماً لمليشيا الدعم السريع أن يراجع موقفه ويعيد النظر فيما أقدم عليه، فالتراجع في بداية الطريق أفضل من نهايته، ومثلما يدرك الداخل السوداني ذلك تدرك كافة الأطراف الدولية أبعاد تولي قائد مليشيا لحكم دولة بحجم السودان بموروثه الثقافي والديني والفكري والحضاري، ولا أعتقد أن حميدتي بمؤهلاته المتواضعة يدرك تلك الأبعاد أو كان يدركها، فتلك الأبعاد ترتكز على رؤية مستقبلية بعيدة المدى وهي أكبر من أن يدركها حميدتي وأتباعه فهم جميعاً أداة لتنفيذ تلك الرؤية ليس إلا وأثبتت التطورات المتلاحقة في الساحة السودانية بأنهم خسروا وسيخسرون، ولا ألوم الأطراف الدولية التي أسست إستراتيجيتها الأمنية والاستخباراتية وحتى الثقافية الخاصة بتجريف الشعوب وسحق الأوطان بصورة سرية وأعتمدت في ذلك على أدواتها الخاصة من أفراد، ومؤسسات ومنظمات وحتى دول رهنت إرادتها لذلك، واختارت لنفسها ذلك المكان الذي لا يليق لا بأخلاق أهلها وعرفهم وقيمهم ولا حتى تاريخهم لتحقيق إرادة الرابح الوحيد والمتحكم بما يراد له أن يكون، وهذا ما يفسر عدم خروج تلك الأطراف الدولية بصورة علنية مضادة لإرادة الشعوب، لإدراكها بأن معاداة الشعوب هو أقصر الطرق لقتل حضورها المستقبلي في أي مكان ليس في أفريقيا فقط وهذا ما حدث وسيستمر مستقبلاً.

مضى سنتان على هذا الحديث مع النخب الأفريقية التي وإن كان يساورها الشك في الكيفية التي ستنتهي بها الحرب في السودان، إلا إنها اليوم باتت أكثر إيماناً بقدرة الدولة الوطنية في إفريقيا على إعادة الدفة وفقاً للمزاج الشعبي والإرادة الوطنية.

  د.أمينة العريمي

باحثة إماراتية في الشآن الأفريقي

د.أمينة العريمي

أمينة العربمي باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي
زر الذهاب إلى الأعلى