الرجل ليس ماركيز، والمدينة ليست ماكوندو، لكن القصة نفسها تقريبا . أمس، كنت أقلب صفحات “مئة عام من العزلة” كمن ينقب في أرشيف لا يخصه، ويقرأ قدرا كُتب بلغة أخرى، لكنه مألوف. ليست هذه الرواية مجرد عمل أدبي، بل مرآة، أو لعله توقّع قديم لما نعيشه نحن الذين ندور ثم ندور، لنكتشف أننا لم نتحرك.
ماكوندو؟ لم تعد خيالا. إنها وجه آخر لمدن نعرفها جيدا: بغداد، دمشق، مقديشو… بل وحتى مدن أخرى ظنت نفسها خارج الدائرة، فإذا بها تُسحب إلى قلبها.
في بغداد، حاولوا كتابة فصل جديد، لكنهم بدأوا السطر بالحبر ذاته. في دمشق، تعاقبت الممالك ومرت القرون، وما زالت الظلال نفسها تخيم فوق المآذن. وفي مقديشو، كلما نهضت من تحت الركام، زحف الحطام خلفها كظل لا يفارق. فالذين جاءوا لإنقاذها لم يحملوا رؤية، بل مصالح ضيقة وأحلاما أصغر من شوارعها المنكوبة.
حتى المدن التي أقنعت نفسها بالاختلاف، بدأت ترى ملامح الزمن الدائري تتسلل إلى ملامحها.
تظن الثورة أنها ولدت بجديد، فإذا بها تمثل مشاهد قديمة بوجوه وموسيقى مختلفة. تبدأ الحروب بكلمات عظيمة، وتنتهي في هوامش النسيان. يفرح الناس عند التغيير، ثم يعودون إلى الشكوى ذاتها بصياغة جديدة.
ووسط كل هذا، يقف رجل بسيط عند ناصية الحياة، يسأل نفسه: أما زلنا في النقطة ذاتها؟ أم أن الزمن يدور علينا ونحن نظنه يتقدم؟
ماركيز، على الأرجح، لم يكن يكتب عن كولومبيا ولا عن أمريكا اللاتينية. كان يكتب عنا جميعا. عن الحلقات التي نظنها مصادفة، وهي من نسيج العادة. عن أورليانو الذي يولد من أورليانو، دون أن يتبدل شيء.
لم يخترع مدينة. بل كتب اعترافا مؤجلا عن الإنسان، عن هذا الكائن الذي أرهقه التقدم، فاختار أن يعيد نفسه كل جيل.
وها نحن نكرر الحكاية. لا لأننا نجهل نهايتها، بل لأننا نخشى كتابة بداية مختلفة.
لكن ربما، فقط ربما، يبدأ الخروج من هذه الدائرة حين نعترف بوجودها. حين نتوقف عن تسمية التكرار قدرا، والعجز حكمة، والركود استقرارا. فليس المطلوب أن نؤسس مدينة جديدة، بل أن نمتلك شجاعة رسم سطر مختلف، بالحبر الذي لم يُستخدم بعد.
وربما، أيضا، حين نلتفت إلى تلك اللحظات القليلة التي تجرأت فيها بعض الشعوب على كسر النمط، ونجحت، ولو مؤقتا، في الإفلات من قبضته. لحظات لم تدم، لكنها تهمس لنا أن المسار ليس قدرا، وأن البداية الجديدة ليست مستحيلة.
وأقول قولي هذا، وأرجو أن يهتدي أولئك التائهون في دوامة التكرار إلى طريق يفضي إلى الانجاز، لا إلى إعادة المشهد ذاته بحبر مستهلك وأمل خافت.