العلاقات الصومالية الجيبوتية في ضوء تطورات المشهد في القرن الإفريقي

القاهرة: صفاء عزب

            تتسم العلاقات بين دول القرن الإفريقي بحساسية شديدة بسبب حيوية المكان وأهميته الاستراتيجية وارتباطه بمصالح الدول الكبرى سواء على الصعيد الإقليمي والقاري أو على الصعيد الدولي، ما ينعكس على ارتفاع درجة القابلية للتوتر وتعكر الأجواء في هذه المنطقة وفيما بين دولها وعلاقاتهم وكثيرا ما يسهم تعارض المصالح بين أطراف إلى حدوث تقارب مع أطراف أخرى. وفي هذا الإطار تأتي العلاقات الصومالية الجيبوتية التي تتسم بخصوصية تجمع بين التوافق والتعاون في أحيان ولكن لا تخلو في أحيان أخرى من بعض شوائب التعكير الذي تسببه عوامل مرتبطه بما تشهده المنطقة من تطورات وتوترات وكذلك طبيعة علاقات كلا البلدين بدول الجوار وخاصة إثيوبيا وإريتريا.

إثيوبيا والعلاقات الصومالية الجيبوتية:

حينما حدثت الأزمة بين الصومال وإثيوبيا بسبب توقيع الأخيرة مذكرة تفاهم مع صوماليالاند غير المعترف بها دوليا للوصول للمياه الدافئة من خلال أرضها مما تسبب في غضب الصومال لما في ذلك من مساس بسيادته على أرضه، قدمت جيبوتي مقترحا للطرف الإثيوبي مفاده عرض إدارة مينائها تاجورا  عليه ليكون بديلا لميناء بربرة الصومالي المثير للمشكلة وتفاديا للتعامل مع بلد غير معترف باستقلالها. وهو العرض الذي أتاح لجيبوتي استثمار 90 مليون دولار لتطوير الميناء. ومع ذلك لم يكن الهدف الوحيد لجيبوتي من هذا العرض هو العمل على إزالة أسباب غضب الصومال بتخفيف التوتر ولا دعم إثيوبيا والوقوف معها في مشكلتها كدولة حبيسة، لأن السياسة لا تعرف إلا لغة المصالح، كما أن المكاسب الاقتصادية ليست وحدها الدافع وراء المسلك الجيبوتي وإنما هناك أهداف أخرى ذات طبيعة استراتيجية. ويمكن فهم ذلك بوضوح حينما نعلم أن ميناء جيبوتي هبطت مرتبته وفقا لمؤشر أداء موانئ الحاويات التابع للبنك الدولي من 26 إلى 379 في الوقت الذي ارتفعت مكانة ميناء بربرة الصومالي من المرتبة 144 إلى 106 وهو ما يثير بطبيعة الحال قلق جيبوتي على مصالحها ومكانتها، مما كان دافعا لها لعرضها ميناء تاجورا على إثيوبيا.

واقع الأمر أن تحركات جيبوتي بالمنطقة مرتبطة بموقعها الحيوي والفريد عند تقاطع البحر الأحمر وخليج عدن بشكل يجعلها في ملتقى التجارة بين قارات العالم الثلاث آسيا وإفريقيا وأوروبا وذلك من خلال سواحلها على البحر الأحمر والمحيط الهندي، كما تأتي مواقفها متأثرة كذلك بالتموضع الاستراتيجي للدول التي تتنافس على موضع قدم بمنطقة القرن الإفريقي وطبيعة المشهد الجيوسياسي الذي يتولد نتاج التفاعل بين المتنافسين، وهو ما ينعكس على علاقتها بدول الجوار.

التقارب الصومالي الإريتري وأثره على علاقة الصومال بجيبوتي

لذلك لايمكن فصل العلاقات الصومالية الجيبوتية عن هذه التحركات التي تشهدها المنطقة والتطورات الحادثة فيها، وهي لا تتأثر فقط بحجم ودرجة التوتر التي تشتعل من وقت لآخر بين الصومال وإثيوبيا، وإنما هناك بعد آخر مؤثر وفعال في هذه العلاقة ويرتبط بالمناخ السائد في أجواء العلاقات الصومالية الإريترية والذي شهد فترات متنوعة من التوتر والتقارب والخلاف والتعاون، في الوقت الذي توجد فيه نزاعات حدودية بين إريتريا وجيبوتي من جانب آخر.

فبعد فترة غير قصيرة من القطيعة بين الصومال وإريتريا حدث تحسن ملحوظ في العلاقات الثنائية بينهما وعادت العلاقات الدبلوماسية مع توقيع اتفاقيات للتعاون في مجالات شتى، قبل أن يتوج ذلك بخطوة مهمة تمثلت في القمة الثلاثية المصرية الصومالية الإريترية والتي شهدت ترسيخا لجبهة موحدة المواقف وأولويات التعاون لمواجهة التهديدات المحتملة من قبل دول أخرى بالمنطقة تسعى لبسط نفوذها وسيطرتها.

ولاشك أن هذا التقارب يغلق صفحة من التوتر الخطير في المنطقة ويعزز روح الاستقرار والتهدئة والعمل نحو تحقيق التكامل الإقليمي الذي يحمل فرص ومكاسب للجميع بما فيهم جيبوتي ولكنه قد يثير قلق الأخيرة لما يشكله هذا التقارب من تحديات تفرض أعباء عليها تنعكس سلبا على حجم دورها بالمنطقة وكذلك تقليص نصيبها من الاستثمارات والتجارة التي يمكن أن تتحول منها إلى منافستها إريتريا.

كما يجب عدم إغفال تأثير النزاع الحدودي بين جيبوتي وإريتريا وظلاله على علاقة الأولى بالصومال عند تقاربه مع إريتريا. وهو نزاع يعود لسنوات بعيدة وشهد تصعيدا عسكريا خطيرا  عام 2008 عندما اتهمت جيبوتي جارتها إريتريا بالتوغل في أراضيها واحتلالها مناطق محل نزاع مشترك، وتتسم بأهمية استراتيجية كبرى لأنها تطل على ممر حيوي للتجارة العالمية وهو مضيق باب المندب بجانب ثرائه بالموارد الطبيعية من غاز ونفط ومعادن. ولكن حرص الجهود الإقليمية والدولية على احتواء الأزمة ومحاولة التوصل لاتفاق سلمي لترسيم الحدود وحل مشكلة التنازع على تلك المنطقة الحيوية يعد أملا في إمكانية وضع صمام أمان للمنطقة.

ويبقى التأكيد على صعوبة التنبؤ بأثر هذا التقارب على علاقة جيبوتي بالصومال وإن كان الأمر يتوقف بدرجة كبيرة على كيفية استجابة الأولى وتعاطيها البراجماتي مع ذلك وتحويله إلى فرصة لتحقيق مزيد من المكاسب وعدم التراجع في المنطقة. لقد حاولت جيبوتي أن تمارس لعبة سياسية ذكية بدخولها على الخط في الأزمة الصومالية الإثيوبية الأخيرة، عندما فتحت قناة اتصال مع الطرف الإثيوبي تعرض عليه ميناءها كبديل للميناء الصومالي محل الخلاف، وهو مسلك لم يكن فقط لنزع فتيل الأزمة وإنما جاء استغلالا للموقف كفرصة لخلق دور في المنطقة وتحقيق مصلحة اقتصادية تحتاجها البلاد. ولكن الاتفاق التركي الذي عمل عودة التوافق والتعاون بين الصومال وإثيوبيا بالمنطقة بما في ذلك إتاحة منفذ ساحلي للدولة الحبيسة عبر الأراضي الصومالية يعني تقليص الفائدة التي كانت تبغيها جيبوتي من تعاونها مع إثيوبيا في مشروع الموانئ. وعند إضافة التقارب الصومالي أيضا بإريتريا يجعل الصومال صاحب الدور الأبرز ويمنحه الجزء الأكبر من خيوط اللعبة في يديه بشكل يفرض على جيبوتي التعاطي مع هذه المتغيرات على ساحة القرن الإفريقي بمنطق براجماتي بعيدا عن ردود الأفعال الانفعالية والحرص على توطيد علاقاتها بكل الأطراف وفي مقدمتها الصومال للحيلولة دون تراجع دورها للخلف والحفاظ على مكانتها في ساحة المنافسة.

تشابه تاريخي وتشابك عرقي ومصالح متبادلة

 ترتبط الدولتان الشقيقتان في منطقة القرن الإفريقي بعلاقات وطيدة قائمة على السمات المشتركة بينهما من روابط تاريخية وجغرافية وثقافية واجتماعية حيث توجد مجموعات عرقية مشتركة مما يساعد على خلق وتوطيد الروابط الاجتماعية بين شعبي البلدين. ويجمع الدولتين تاريخ مشترك ومتشابه من الاستعمار الذي كان دافعا لتعاونهما تحقيقا للاستقلال. كما تجمعهما تحديات معاصرة ترتبط بسبل تحقيق التنمية الاقتصادية ومواجهة المخاطر الإقليمية للمنطقة التي تجمعهما، وعلى رأسها القرصنة البحرية والتهديدات الإرهابية. وإلى جانب ذلك فإن قوات جيبوتي تعد جزء من بعثة الاتحاد الإفريقي الانتقالية “أتميص” في الصومال والتي تشارك في مهامها المنوطة بها خلال العام الجديد.

كما وترتبط المصالح الصومالية بشكل حيوي بالأهمية الاستراتيجية للموانئ الجيبوتية والتي يعتمد عليها الصومال في تجارتها الخارجية حيث تشكل منفذا حيويا لصادراتها ووارداتها بجانب أن المساعدات الإنسانية أيضا يتم إدخالها للصومال عبر موانئ جيبوتي. ولذلك تحرص الإدارة الصومالية على دعم الاستثمار في تطوير هذه الموانئ من أجل تحسين أدائها في تيسير حركة التجارة.

وبقدر التشابه في العناصر المشتركة بين البلدين توجد أوجه للاختلاف الذي يؤدي لحالة من حالات التنافس على موارد المنطقة المشتركة خاصة الأسماك والمياه. كما يلعب اختلاف خلفيات السياسة الداخلية لكلا البلدين دورا مهما في تحديد توجهاتهما المؤثرة على العلاقات الخارجية سواء الإقليمية أوالدولية.

عوامل خارجية تؤثر على العلاقات الصومالية الجيبوتية

يمكن وصف علاقة الدولتين جيبوتي والصومال بأنها مركبة وحساسة نظرا لتأثرها الشديد بطبيعة تطورات المشهد في منطقة القرن الإفريقي، فإلى جانب علاقات الدولتين المباشرة بإثيوبيا وإريتريا توجد عوامل أخرى تلقي بظلالها على هذه العلاقة وتؤثر فيها ويمكن تلخيصها فيما يلي:

أولا: حالات التنافس الإقليمي:

حيث تحفز الأهمية الاستراتيجية للمنطقة على إثارة التنافس والصراع الإقليمي على النفوذ بالقرن الإفريقي تحقيقا للمصالح وتعظيما للمكاسب، وهو من شأنه أن يؤدي إلى التأثير على العلاقات الصومالية الجيبوتية كما رأينا في السلوك الإثيوبي وما أعقبه من تداعيات.

ثانيا : التحديات الأمنية:

بحكم ما تشهده المنطقة من مشكلات ومخاطر أمنية متواترة مثل انتشار جماعات العنف المتطرفة وما يرتبط بها من أنشطة إرهابية، فإن ذلك ينعكس سلبا على حالة الاستقرار في العلاقة بين الدولتين ويؤخر بدوره ثمار عمليات التعاون الاقتصادي كما يؤدي لتراجع المشروعات الاستثمارية المشتركة التي توطد للتقارب.

ثالثا: محاولات التدخل الخارجية:

لاشك أن ما تحتضنه المنطقة من موارد وكنوز اقتصادية وما تتمتع به من أهمية جيوسياسية يدفع الدول الخارجية لمحاولة التدخل وبسط النفوذ والتأثير في المشهد الإفريقي وهو الأمر الذي يسهم في تعميق المشكلات واستحكام الأزمات. ويزداد التأثير السلبي لهذه التدخلات عندما تصل لمرحلة تقديم الدعم العسكري لأحد الأطراف المتنازعة أو المتصارعة مما يؤدي لحدوث تصعيد خطير يهدد استقرار المنطقة.

رابعا: النزاعات الحدودية:

أدى التقارب والتجاور الجغرافي بين جيبوتي والصومال في حضن القرن الإفريقي إلى تداخل العشائر والقبائل فيما بينهما مما يثير التنازع على الحدود خاصة تلك غير واضحة المعالم. كما ساهمت الهجرات الداخلية إلى تغييرات ديموجرافية في تركيبة السكان بشكل أدى إلى زيادة التنافس على الأرض والموارد بشكل قد يهدد استقرار العلاقات بين الدول خاصة إذا ما لعبت التدخلات الخارجية دورا خطيرا في تأجيج مثل هذه النزاعات لتحقيق مصالح وأجندات خاصة بالأطراف الإقليمية والدولية.

المستقبل وآفاق التعاون المشترك

لاشك أن إرساء الاستقرار والحفاظ على استباب الأمن بالمنطقة هو ضرورة للبلدين لكفالة المناخ الملائم والبيئة الصحية للتطور الاقتصادي والتنمية التي تصب في مصلحة شعبي البلدين. ولابد من خلق أجواء للتعاون والتفاهمات المشتركة حول هذه المصلحة لإبطال أثر العوامل المؤثرة سلبيا في علاقة جيبوتي بالصومال. ولاغنى في ذلك عن دﻋم اﻟﺗﻧﻣﯾﺔ اﻻﻗﺗﺻﺎدﯾﺔ وتشجيع اﻟدوﻟﺗﯾن على اﻻﺳﺗﺛﻣﺎر ﻓﻲ ﻣﺷروعات ﻣﺷﺗرﻛﺔ لتحقيق ذلك وﺧﻠق ﻓرص عمل جديدة. كما تأتي أهمية استغلالهما الفرص المتاحة لديهما لتعزﯾز اﻟﺗﻛﺎﻣل اﻹﻗﻠيمي سواء الثنائي أو مع باقي دول اﻟﻣﻧطﻘﺔ. وبطبيعة الحال يتطلب ذلك ﺗﻌزﯾز اﻟمزيد من اﻟﺣوار اﻟﻣﺳﺗﻣر في أجواء من اﻟﺷﻔﺎفية التي تضمن بناء وترسيخ الثقة المتبادلة بين جيبوتي والصومال.

ورغم التطلعات الكبيرة لدى الطرفين في تقوية العلاقات الصومالية الجيبوتية، إلا أن الأمر يظل مرهونا بطبيعة التطورات الحادثة على ساحة القرن الإفريقي والتي تمت الإشارة إليها سابقا وتوضيح انعكاساتها على علاقة البلدين وهو ما يتطلب ضرورة التمسك بتوطيدها من خلال دعم كافة أوجه التعاون الأمني والاقتصادي وكسر حالة الصراع والتنافس بالسعي لتحقيق شراكة استراتيجية وتكامل في الإطار الإقليمي كأفضل وسيلة لمواجهة محاولات التدخل الخارجية والتي قد تتسبب في إفساد علاقات دول المنطقة ببعضها البعض. ولاشك أنه كلما ساهم الاستقرار وهدوء المنطقة في التفرغ لعملية التنمية والبناء، كلما انعكس ذلك إيجابا على مستوى معيشة شعوب المنطقة حيث تتاح لهم الفرصة لجني ثمار العمل والشعور بالتغيير للأفضل.

صفاء عزب

كاتبة وصجفية مصرية
زر الذهاب إلى الأعلى