لهذه العوامل لا يكمن المقارنة بين سوريا وما حصل في مصر

مقديشو محمد بن الحسن

في العقد الماضي، وقف العالم العربي على أعتاب تغيير جذري. اندلعت ثورات شعبية في عدد من البلدان، تحلم بإنهاء عقود من القهر والاستبداد. ومن بين هذه الثورات، الثورة المصرية والسورية الأكثر إثارة للجدل، فقد مثلتا مسارين متباينين في التغيير، مختلفين في سياقهما وأدواتهما ونتائجهما. على الرغم من تشابه الشرارة الأولى في كليهما، إلا أن اختلاف العوامل الحاسمة جعل لكل ثورة منهما قصة خاصة، تقف شاهدة على تباين الظروف التاريخية والسياسية.

العامل الأول: الجيش… الحارس أم الكابح؟

كان للجيش الدور الأبرز في تحديد مصير الثورة في كل من مصر وسوريا، لكن مسارهما كان على طرفي نقيض.

في مصر، الجيش كان ولا يزال حجر الزاوية في النظام السياسي، لم يكن سقوط حسني مبارك يعني سقوط النظام بأكمله. فبمجرد أن رحل مبارك، بقي الجيش قوياً ومتماسكاً، مثل هيكل خفي يُمسك بخيوط اللعبة. حينما جاء رئيس مدني منتخب، ومفتقر للدعم من النخب، وجد الجيش الفرصة سانحة ليطيح به ويعيد ترتيب المشهد السياسي. دفن الجيش أحلام الثورة سريعًا، وقدم بديلاً جديدًا للنظام القديم بوجوه تحمل أقنعة مختلفة، لكن جوهرها ظل كما كان. الثورة في مصر لم تُكمل دورتها؛ لأنها اصطدمت بجدار الجيش الذي لم يسمح بخروج السلطة من قبضته.

أما في سوريا، فكان الجيش نفسه جزءاً من المشكلة. مع تصاعد الثورة، بدأ الجيش النظامي بالتفكك؛ فالبعض هرب مع بشار الأسد، والبعض الآخر سلم نفسه وألقى سلاحه. حلّت الفصائل الثورية محل الجيش النظامي، وخلقت واقعًا جديدًا. انهيار الجيش يعني انهيار الدولة الأسدية بالكامل، فلم يعد هناك مؤسسة قادرة على تحريك ثورة مضادة أو بناء نظام جديد على أنقاض القديم. لقد كان هذا الانهيار الشامل بمثابة نقطة اللاعودة، حيث لم يبقَ شيء من الدولة القديمة ليعاد ترميمه.

العامل الثاني: التيارات المسيطرة… حلم الوطن أم كبرياء الجماعة؟

الثورة ليست فقط تغيير نظام، بل هي إعادة بناء وطن. ومع ذلك، فإن التيارات التي تتولى زمام الأمور بعد الثورة قد تقود الحلم إلى النجاح أو الفشل.

في مصر، ظهر الإخوان المسلمون كالقوة الأبرز التي سيطرت على البلاد بعد سقوط مبارك. قدموا أنفسهم كأبطال الثورة، وكأنهم وحدهم من أزاح النظام. ملأوا مؤسسات الدولة، متجاهلين التنوع السياسي والاجتماعي، مما خلق حالة من الاستياء بين قطاعات واسعة من الشعب. سياسات الإقصاء التي انتهجوها، وعدم قدرتهم على تحقيق توافق وطني، جعلتهم يبدون وكأنهم يعيدون إنتاج استبداد جديد بغطاء ديني. هذه السياسات قسمت المجتمع المصري وأفقدت الإخوان شعبيتهم، مما مهد الطريق للجيش للتدخل مجددًا واستعادة السلطة.

في سوريا، كان الدرس مختلفًا. أدركت الفصائل الثورية أن الوطن لا يمكن أن يُختزل في تيار أو جماعة واحدة. تعلموا من الفشل الذي حدث في التجربة المصرية، وحرصوا على تجنب سياسات الإقصاء. هذا الإدراك خلق نوعًا من التوازن النسبي بين القوى المختلفة، وأبقى الباب مفتوحًا أمام بناء دولة تتشارك فيها الفصائل الثورية، رغم تعقيدات المشهد السياسي والعسكري.

العامل الثالث: السياسة الخارجية… بناء التحالفات أم إشعال العداء؟

تأثير السياسة الخارجية في نجاح أو فشل الثورات لا يقل أهمية عن العوامل الداخلية. في عالم متشابك المصالح، لا يمكن لدولة أن تنعزل عن محيطها الإقليمي والدولي.

في مصر، كانت السياسة الخارجية التي تبناها الإخوان المسلمون بعد وصولهم إلى الحكم سبباً في إثارة الكثير من الجدل. اختار الإخوان التقرب من إيران، وهي خطوة اعتُبرت كابوسًا من قبل العديد من المصريين ودول المنطقة. فإيران، في نظر الكثيرين، لا تختلف عن إسرائيل من حيث التهديد الذي تمثله للمصالح العربية. أضف إلى ذلك، عداء الإخوان لبعض دول الخليج، ما خلق أجواء مشحونة وزاد من حالة العزلة الإقليمية. هذه السياسة أدت إلى تراجع الدعم الإقليمي والدولي للثورة، وساهمت بشكل مباشر في تقوية الثورة المضادة التي أطاحت بالإخوان وأعادت الجيش إلى السلطة.

أما في سوريا، فكان المشهد مختلفًا. القيادة الجديدة، برئاسة أحمد الشرع، اختارت تبني سياسة خارجية متوازنة. الشرع أعلن بوضوح أنه لا يريد مواجهة مع روسيا، الدولة التي دعمت نظام بشار الأسد حتى اللحظات الأخيرة. هذا التوجه الواقعي جنّب سوريا الدخول في صراعات جديدة مع قوى كبرى، وخلق مساحة للتعامل مع الواقع الإقليمي والدولي بقدر من الحكمة. تجنب الصدام مع روسيا كان خطوة ذكية ساعدت في تقليل الأعداء الخارجيين، وسمحت للفصائل الثورية بالتركيز على ترتيب أوضاعها الداخلية بدلاً من استنزاف طاقاتها في مواجهات خارجية.

الدروس من الثورتين

الثورة المصرية والسورية كانتا وجهين لحلم التغيير، لكن اختلاف الظروف والعوامل الحاسمة صنع مسارين متباينين تمامًا. بين دور الجيش، والتيارات المسيطرة، والسياسات الخارجية، تظهر لنا قصة الثورة في كلا البلدين كدرس مليء بالعبر. الثورة ليست مجرد لحظة سقوط نظام، بل هي عملية معقدة تتطلب وعيًا بموازين القوى، داخليًا وخارجيًا.

الثورة التي تنجح هي تلك التي تتعلم من أخطائها وأخطاء غيرها، وتحافظ على توازنها بين الأحلام الكبيرة والواقع الذي لا يمكن تجاهله. فهل سنرى يومًا وطنًا عربيًا يستطيع فيه الجميع أن يجدوا مكانًا لهم دون إقصاء أو هيمنة؟ فقط الزمن سيجيب.

محمد بن الحسن

كاتب وباحث صومالي ، خريج ماجستير في أصول الفقه من الجامعة الإسلامية
زر الذهاب إلى الأعلى