الوقوف على الحقائق الاجتماعية ليس بالأمر الهين نظرا لاشتمالها على أبعاد نفسية ومشاعر إنسانية لا يمكن مقاربتها بالرؤية والجس والحواس، مثل المادة، وإنما يمكن مقاربتها وفهمها من خلال مناهج أخرى للكشف عن وجودها، وهذه المناهج تساعدنا في فهم العلاقات الإنسانية ثم القدرة على تفسيرها ثم التنبؤ لما ستؤول إليه في المستقبل..
الفلاسفة منذ عهد اليونان وما قبله اعتمدوا على التأمل العقلي المجرد والحدس، نتيجة الخبرة والملاحظة لواقعهم، والآراء الكثيرة المنسوبة إلى أساطين الفلسفة اليونانيين، وفلاسفة المسلمين كانت نتاج هذا التأمل العقلي، ولم تكن نتيجة بحث ميداني.
مثَّل ابن خلدون قفزة في مجال المنهج حيث استخدم منهج الاستقراء واتخذ حركة التاريخ الإنساني والسنن ميدانا للتطبيق، فعندما كان يحلل العمران ( الاجتماع البشري) والحكم والعصبية فإنه اعتمد على الوقائع التاريخية ميدانا لاختبار صحة فرضياته، متصفحا أحوال الأمم من العرب والعجم، والبربر كما يظهر من اسم كتابه، وقد اعتمد أيضا الملاحظة لأحوال عصره المتقلب.
القرآن الكريم زوَّدنا بتفسيرات سننية حيث يعلمنا أن هناك سننا ( قوانين) إلهية ثابتة تحكم حركة الاجتماع البشري لا تتخلف، وما علينا سوى اكتشافها وفهم طريقة عملها، فأمر بالاعتبار والسير في الأرض لمعاينة آثار الظالمين.
وهكذا بإمكاننا إرجاع بعض الوقائع إلى تفسيرات مثل تفشي الظلم والمعاصي وترك الحكم بكتاب الله، وزوال النعم، والهزيمة والانتصار والتمكين إلى هذه السنن مثل تفشي المعاصي والظلم والكفر وغيرها .
أما اليوم فالمتعارفُ أن دركَ الحقائق الاجتماعية في ميادين السياسة والإدارة والاقتصاد صارت تنطلق من بحوث ودراسات تعتمد على أدوات كالإحصائيات، ومسح الاتجاهات، والمقابلات، وتستهدي بنظريات من خلالها يتم تفسير الظواهر الاجتماعية كالنزاعات المسلحة، والخلافات السياسية، والتعصب.
ولكل ظاهرة جانبان: جزء ظاهر لنا ، وجزءٌ كامن مخفي، ومهمة الباحث أولا هي وصف الظاهرة وصفا كميا أو كيفيا لمعرفة شدتها أو ضعفها، أو خطورتها، ثم البحث عن الجزء المخفي لها بهدف فهمها ثم معالجتها وإحداث تغيير فيها،
فالظاهرة ( الحرب المسلحة والنزاع السياسي مثلا) تأتي نتيجة لأسباب وعوامل كامنة، إذا لم يتم فهمها ثم معالجتها فلن تتوقف الحرب المسلحة، ولن يتوقف النزاع السياسي.
فاشتداد العصبيات وبروز الخلافات السياسية والحروب المسلحة ظاهرة، ( وهو الجزء المرئي منها) أما الشعور بالظلم الاجتماعي والاقتصادي، والاختلالات في الهوية، والتهميش وسوء توزيع الموارد والمناصب هي الأسباب الكامنة، والعوامل المخفية، وهي بلغة البحث العلمي المتغير التابع ، والظاهرة ( الحرب مثلا) هي المتغير المستقل، فلو أحدثنا تغييرا في (السبب) فإن (النتيجة) تتغير زيادة أو ضعفا تبعا لذلك.
(( مثال تطبيقي : مؤتمر عرتا حاول إيجاد حل لظاهرة الحرب وانهيار الدولة، وكان هناك اقتناع بفرضية أن السبب الأساسي هو التهميش السياسي، فكان من الحل إشراك جميع القبائل في العملية السياسية من خلال معادلة 4.5 وهكذا تم استيعابها، بغض النظر عن التدافع والتنافس في داخل كل قبيلة، فكان هذا بداية الاستقرار السياسي على الأقل في الجزء الجنوبي من البلاد، ولكن هذا الحل سيصطدم بعقبات كانت متوقعة وهي الكيانات السياسية التي لم يتم استيعابها مثل أمراء الحرب في محيط العاصمة وفي بونتلاند ، واصطدم كذلك ببروز ظاهرة أخرى وهي تنامي الإسلاميين المسلحين)).
على كل حال، الخلافات السياسية الجارية الآن والتي تتمظهر بمظاهر عديدة مثل إعلان الانفصال والدعوة للفيدرالية وأزمة الدستور، والتدخلات الخارجية،
هل نعتبرها نتيجة لعوامل سياسية واقتصادية كامنة أم نجعل الظواهر نفسها هي الأسباب لما يحدث.
الظاهرة الواحدة قد تكون نتيجة وسببا في آن واحد…
فمثلا تبني النظام الفيدرالي كان نتيجة لظروف الحرب الأهلية وتدهور الثقة بين الجهات والمناطق والقبائل.
ولكن حاليا النظام الفيدرالي الذي كان نتيجة أصبح هو الآن سببا لبروز ظواهر أخرى وهي ارتفاع وتيرة العصبيات والهويات الفرعية، وأصبح سببا لظهور وسائل كثيرة لتقوية الهويات الجزئية مثل الرموز القبلية والثقافية.
وهكذا تستمر بروز الظواهر وتتعدد الأسباب والعوامل وتتوالد.
ابن عمر
طاب يومكم