رغم أنني قرأتُ رواية البؤساء للكاتب الفرنسي الكبير فيكتور هوغو بترجمتها العربية، التي تقع في نحو 2340 صفحة، قبل أربعة عقود، إلا أن التجربة ما زالت حيّة في ذاكرتي، كأنها أصداء لحن قديم لا يخبو سحره. لقد كانت البؤساء، بفصولها وشخصياتها رحلة فكرية وعاطفية عميقة تركت أثرًا لا يُمحى في روحي وأغنت مخيلتي. ولم يكن ذلك لجمال أسلوبها الأدبي الرفيع وحبكتها المحكمة فحسب، بل لما تمتلكه من قدرة فريدة على بناء جسر إنساني يتجاوز الحدود، حيث تجسد قيما خالدة مثل التضحية والعدالة في مواجهة الظلم.
في تلك الأيام، كانت الكتب المترجمة إلى العربية نافذتنا الواسعة على عوالم الأدب والفكر العالمي. لم تكن المكاتب في الصومال ثرية بالمصادر الأدبية المترجمة، لكن جهود المترجمين العرب كانت أشبه بمنارات أضاءت لنا الطريق نحو قمم الأدب الغربي. عرفنا من خلالها أعلاما مثل هوغو، وتولستوي، وديكنز، ودوستويفسكي، وماركيز، فكانت هذه الأعمال بمثابة جسور أدبية بين شعوب مختلفة.
رواية البؤساء، بطابعها الواقعي الممزوج بالشاعرية، فتحت لي نافذة لاستكشاف القيم الإنسانية التي تتجاوز الحواجز الجغرافية والثقافية. القضية المحورية التي تناقشها الرواية ليست حكرا على فرنسا، بل تحمل طابعا إنسانيا عاما يعكس آلام البشرية جمعاء. وحتى في واقعنا الصومالي، الذي شهد-ولا زال- يشهد فصولا طويلة من الظلم والقهر، وجدتُ صدىً عميقا لما تحمله هذه الرواية من معاناة وصراع.
من خلال شخصية “جان فالجان”، شعرت وكأنني أراقب الصراع الأبدي بين الخير والشر داخل النفس البشرية. سعيه المستمر للخلاص بدا لي رمزا لرحلة الإنسان الأزلية بحثا عن الكرامة والحرية. ورغم أن شخصيته قد تبدو أقرب إلى الأسطورة، إلا أنها عكست تعقيدات الإنسان وضعفه وقوته معا. بالنسبة لي، البؤساء لم تكن مجرد عمل أدبي؛ بل كانت مرآة تعكس معاناة الشعوب المثقلة بالفقر والاضطهاد.
أما “جافير”، ضابط الشرطة الذي يطارد “جان فالجان”، فقد مثّل النظام القمعي بكل صرامته. لم يكن “جافير” شريرا بالمعنى التقليدي، بل كان تجسيدا لعدالة جامدة تفتقر إلى الرحمة، مما جعله رمزا لنظام يُغلّب القانون على حساب الإنسانية.
علاقة “جان فالجان” بـ”كوزيت” كانت نموذجا ساميا للتضحيات التي يقدمها الإنسان لمن يحب. كانت “كوزيت” رمزا للبراءة وسط عالم يفيض بالمآسي، وأملا يشع في ظلام الحياة. أما قصة حب “ماريوس” لـ”كوزيت”، فكانت انعكاسا لأحلام الشباب وطموحاتهم في بناء مستقبل أكثر إشراقا.
ما أدهشني في البؤساء هو براعة هوغو في رسم مشهد إنساني يتجاوز الثقافات والطبقات الاجتماعية. طرح الرواية للصراع الطبقي والظروف القاسية وجد صدىً مؤلما في واقعنا الصومالي، الذي لا يزال يعاني من الفقر والصراعات الأهلية. وقد جعلت هذه التشابهات القارئ الصومالي يشعر بأن معركة العدالة ضد الظلم هي معركة أبدية تتخطى حدود الزمان والمكان.
ورغم قتامة الصورة التي ترسمها الرواية، فإنها تحمل في طياتها رسالة أمل عميقة تؤكد أن التغيير ممكن. كما استطاع “جان فالجان” أن ينهض فوق جراح ماضيه، تُذكرنا الرواية بأن الإنسان قادر على تجاوز مآسيه إذا ما تمسك بالقيم النبيلة وسعى لتحقيق الأفضل.
بالنسبة لي، كقارئ صومالي، لم تكن البؤساء مجرد قصة عن الخير والشر، أو عن الفقر والغنى، بل كانت درسًا خالدا في الإنسانية ورسالة أبدية تقول: إن الأمل والعدالة يظلان ممكنين مهما بلغت المحن.