إستدارة “سودانية” ثلاثية الأبعاد

بالرغم من الهزائم المتواصلة التي منيت بها مليشيا الدعم السريع، وفقدانها السيطرة على إيقاف حالة الإفلاس الأخلاقي والسياسي والعسكري التي تحيط بها، إلا أن محاولاتها اليائسة لفرض واقع جديد في المشهد السياسي السوداني ما زالت متواصلة، ولا يدفعها لذلك إيماناً بقضية أو تأصيلاً لمبدأ، أو حتى دفاعاً عن حرمة وطن تفتقر لأبجدياته، فهذه ركائز لا يكتسبها المرء إكتساباً بل تتوالد في وجدانه تدريجياً ليكون المحك الحقيقي لصدقها وثباتها هو ذاته الفيصل الذي يحدد حجم التضحية في سبيلها.

وفي مؤشر على ما ذكر أنفاً تم تداول أنباء حول قرب  الإعلان عن حكومة موازية في السودان أطلق عليها “حكومة السلام” بقيادة قائد المليشيا “حميدتي” والتي جاءت متزامنة مع نشر صورة لرئيس تنسيقية “القوى الديموقراطية المدنية\ تقدم” الدكتور”عبدالله حمدوك” مع أحد الإعلاميين السودانيين في نيروبي، وأياً كانت التحضيرات القادمة التي تسعى إليها مليشيا الدعم السريع وذراعها السياسي، فهي لن تؤثر على سير تقدم العمليات العسكرية التي يخوضها الجيش السوداني من العاصمة الخرطوم إلى مدينة الفاشر، ومن جانب أخر تدرك القيادات السياسية في دول الجوار الإقليمي للسودان “كينيا، إثيوبيا، أوغندا” والتي سبق وإستقبلت قائد المليشيا، وإستضافت بعض عواصمها إجتماعات تضم أعضاء من الذراع السياسي للمليشيا أن قبولها “المؤقت” في ذلك الوقت كان يدخل في نطاق المساومات السياسية، وإن لم توجد تلك المساومات فإختلاقها كان واجباً ما دام مدفوع الثمن، ولكن قبولها اليوم لنظام سياسي جديد على مرمى حجر من أراضيها تقوده مجموعات توسعية تدار من الخارج و”غير مؤهلة”، ولكنها وجدت لها صيغة دستورية تشرعن بها وجودها في المشهد السياسي السوداني سيأتي قطعاً بنتائج عكسية على أمنها القومي، أضف إلى ذلك إنحراف بوصلة الرؤية الدولية للملف السوداني عما كانت عليه، وقناعتها بأن حجم الإلتفاف الشعبي حول الجيش السوداني هو ما عجل بتقدم سير عملياته على الأرض بعد أن توارى الرهان الدولي والإقليمي على قيادة المليشيا لسودان ما بعد البشير، ونظراً لنجاح الجيش السوداني في بسط سيطرته وإستعادة مرافق الدولة فمن غير المتوقع أن تقبل أحد دول الجوار الإقليمي للسودان في هذا التوقيت بأن تكون واجهة تنطلق من أراضيها حكومة منفى أو حكومة موازية للحكومة السودانية، وبالتالي لو أقدمت المليشيا على خطوة الإعلان عن تلك الحكومة المزعومة فهي لن تعلن عنها إلا في حواضنها المتبقية في غرب السودان كنوع من إكتساب الشرعية لها.

لإجهاض الحكومة الموازية في حال إعلانها يقترح العمل على الأتي:

  • العمل على تشكيل تكتل أمني تقوده السودان لمكافحة كافة التنظيمات المسلحة المهددة للدول الوطنية، بإعتبارها أحد الدول التي عانت من وجود تلك التنظيمات ولها الخبرة الواسعة في مواجهتها وإضعاف دورها، ولتحقيق ذلك يمكن الإستثمار في توطيد العلاقات مع الدول الإفريقية التي تعاني من وجود مليشيات تسعى للسيطرة على الدولة الوطنية مثل “نيجيريا” و “الكاميرون” و “غانا”، خاصة أن هناك توجه مشترك لتلك الدول بالتعاون مع الخرطوم في مجال الأمن والدفاع ومكافحة الإرهاب، وبرز هذا التوجه مؤخراً بعد نجاح الجيش السوداني في تحييد مليشيا الدعم السريع والقضاء على كبار قادتها، وتعاون الخرطوم الأمني مع تلك الدول وعلى رأسهم “نيجيريا” في هذا الملف يعتبر إضافة وسيعزز أمن الدولة الوطنية، وسيشجع العديد من الدول الإفريقية بالإنضمام إلى هذا التكتل.
  • العمل على تطوير برامج إعلامية “خاصة” تفند الأطروحات السياسية المغلوطة التي تحاول تعكير صفو الأمن العام ومنها ربط نتائج الأحداث السودانية بالسيناريو الليبي في إشارة إلى تكراره في السودان وهذا خطأ، وسبق وأن أشرنا بأن السيناريو الليبي ليس له محط قدم في سودان ما بعد البشير، فالبيئة السياسية والأمنية والدينية التي تأسست عليها الدولة السودانية منذ ما قبل الإستقلال حتى اليوم مختلفة تماماً عن البيئة الليبية، ناهيك عن التركيبة النفسية والفكرية للمواطن السوداني والتي لا يصعب فهمها، فالرفاهية الفكرية والمرونة الاجتماعية أكسبت المجتمع السوداني على مدى التاريخ نوعاً مما يمكن أن نطلق عليه “Haute vision”، وتعني “سمو الرؤية”، وهذا ما إنعكس على محيط الحياة التي يحياها المواطن السوداني، ولا أعني  بسمو الرؤية هنا علو الرؤية لكمالها أو جلالها، ولكن أعني قدرة المجتمع السوداني على تحويل من يحيا فيه بالذهاب به “فكرياً” إلى ما هو أبعد من نقطة النهاية تماماً كقدرته على إرجاعه لما قبل بدايتها، ويكفي المرء منا أن يحضر تجمعاً سودانياً، شيوعياً كان أو ليبرالياً، إسلامياً كان أو مسيحياً ليُدرك قدرة المجتمعات المتضادة في إتجاهاتها والمتوافقة في وطنيتها.
  • تطبيق إستراتيجية “plat commun \ الطبق المشترك”: تدرك موسكو أن فرصتها الأخيرة ليكون لها موطىء قدم في البحر الأحمر لن يتحقق إلا عبر الخرطوم، صحيح أن تقاربها الأخير مع أسمره قد يفتح لها بوابة بديلة للبحر الأحمر في حال فشلت في الخرطوم، ولكن تركيبة الدولة الأرتيرية وتعدد تقلبات رئيسها جعلت من أسمره جهة غير مأمونة العواقب، وهذا كان وما زال أحد أهم العوامل التي جعلت من أرتيريا أرضاً طاردة للمستقبل، وهو ذاته ما يدعم الرؤية التي ترى في أسمره أرضاً للحراك المؤقت أو إستخدامها كواجهة لمناكفة سياسية صعب على الساسة حلها بالتفاوض، وعليه أرى أن تلك هي الثغرة التي يمكن أن تمر من خلالها الإستراتيجية السودانية المستقبلية للتعامل مع روسيا ضماناً لإستمرار موقفها الداعم للسودان في مجلس الأمن من جانب، وتعزيزاً لدبلوماسية تعدد الحلفاء المقبلة عليها سودان ما بعد البشير للتعامل مع كافة الأطراف من جانب أخر، ولتحقيق نتائج محكمة حول هذا أرى أن يعمل السودان بالتزامن مع العمل الدبلوماسي المتطور بين الخرطوم وموسكو، على تشكيل فريق للإجتماع مع “Dimitri Sytyi” الشخصية الروسية الأبرز في رسم وتطوير النفوذ الروسي في إفريقيا، لما يتمتع به من نفوذ “أمني، سياسي، إستخباراتي” يتفوق به على كافة السفراء الروس في القارة الأفريقية، وذلك للإستيضاح والوقوف حول حقيقة التخطيط لقاعدة روسية في المثلث الحدودي “الليبي- التشادي- السوداني”، ومعرفة خط سير التقرب الروسي مع خليفة حفتر، وأهم ما سيساهم في نجاح تلك المهمة لو نفذت هو عقلية “Dimitri” المنفتحة لكونه باحثاً أكاديمياً متخصصاً، وهذا ما جعله متقبلاً لكافة الأراء، وموقفه الإيجابي من الجيش السوداني، وتأكيده على سيادة الدولة السودانية وضرورة إحترام مؤسساتها الوطنية المدنية والعسكرية.
  • العمل على إستكمال النشاط الدبلوماسي الذي بدأته الخرطوم في منطقة الغرب الإفريقي مؤخراً وذلك بإستنساخه وتطوير أداوته وألياته في دول الشرق الإفريقي التي بات موقفها من الأزمة السودانية يستدعي الإستدراك والإحاطة والحل قبل أن يتضخم، وعليه يجب التركيز على الأتي:

جمهورية الصومال الفيدرالية:

رغم دعم مقديشو الكامل لسيادة الدولة الوطنية  السودانية إلا أن الواقع السياسي الصومالي في بعض المناطق التي تحاول العمل خارج إطار الدولة الفيدرالية أظهرت مقديشو بمظهر “المتماهي” ولا نقول “المحايد” في العديد من الملفات، وإنعكس ذلك سلباً على سير عمل السياسية الخارجية الصومالية رغم إلتزام الدولة الفيدرالية بسياسة حسن الجوار مع كافة دول الإقليم، وفي ضوء تطور الأحداث في المشهد السوداني كشفت بعض التقارير الإستخباراتية عن وجود عناصر جديدة من مليشيا الدعم السريع في منطقة بونتلاند الصومالية، والتي تعمل كقناة إمداد داعمة للمليشيا، فأصبح من المهم فتح ملف العلاقات السودانية الصومالية، والإطلاع بدقة على الأزمة القائمة بين الدولة المركزية في “مقديشو” وبين بونتلاند، والتي تتلخص في أن “سعيد ديني” رئيس منطقة بونتلاند رفض إختيار الحكومة الصومالية الفيدرالية لــ”عبد الحكيم أحمد” والمعروف بإسم “دوبو دارود” سفيراً لمقديشو في اليمن، وسبب رفض “ديني” هو أن “عبد الحكيم” في عهد الرئيس السابق “محمد فرماجو” كان رئيساً لبرلمان بونتلاند وتم فصله من منصبه عام 2019 لتعاونه مع مقديشو ضد مصالح “ديني”، وهذا ما دفع “عبدالحكيم” إلى التقرب اليوم من الإدارة الصومالية الحالية لتحجيم نفوذ “ديني”، ووفقاً لوجهة نظر إفريقية أن في فوز “دوبو” بالمنصب المراد له سيجعله على معرفة تامه ودقيقة بقنوات الإمداد والإتصال والعناصر الأمنية “الأجنبية والصومالية” على جانبي خليج عدن، ولا أعلم ما الذي يزعج “ديني” في ذلك إلا إذا كانت التقارير الأمنية الواردة حول إستقبال “ديني” لعناصر من مليشيا الدعم السريع “سراً” والتي ينكرها صحيحة، ولقطع الطريق على تلك العمليات الداعمة للمليشيا يقترح الإجتماع مع الحكومة الصومالية والإتفاق معها على وضع خطة برعاية سودانية صومالية مشتركة لإحباط تلك العمليات، وتشكيل خلية أزمة في السفارة السودانية في مقديشو لمراقبة التطورات حول هذا الملف لتنبيه القيادة السودانية ووضع الحلول المناسبة.

جمهورية إثيوبيا الشعبية الديموقراطية

أدركت إدارة رئيس الوزراء الأثيوبي آبي أحمد بعد عام ونصف على إندلاع الأزمة السودانية بإن تركها للباب موارباً أمام تلك الأزمة لم يعد يجدي نفعاً خاصة مع ظهور عناصر عسكرية إثيوبية تقاتل جنباً إلى جنب مع مليشيات ‫الدعم السريع، وهذا ما وجدته أديس أبابا بأنه سيكون مدخلاً لا تحمد عقباه مع سودان المستقبل حتى وإن لم تحسم الحرب لصالح أحد الطرفين، فإستقبال أديس أبابا لقائد مليشيا الدعم السريع حميدتي في يناير 2024 لم يكن موفقاً فهو أظهر أديس أبابا بمظهر اللاحقة بركب المقوضين لسيادة الدولة السودانية في هذا الظرف الدقيق من تاريخ السودان الحديث، ومن جانب أخرى كان إحتضان الخرطوم منذ عام 2018 لمجموعة من الدبلوماسيين الأثيوبيين السابقين الذين أجبرتهم حكومة رئيس الوزراء الأثيوبي “أبي أحمد” على التقاعد قد تكون برأيي أحد أهم الأسباب التي دفعت أديس أبابا بعد 15 أبريل 2023 إلى إتخاذ موقف ضبابي من الأزمة السودانية الحالية، فلقد أكدت مصادر “أمنية” فرنسية بأن “Tewolde Gebremeskel” سفير إثيوبيا السابق في السويد ودول الشمال الأوروبي من عام 1992 حتى 2003، ومدير قسم السلام والأمن في الهيئة الحكومية الدولية للتنمية “الأيقاد” وهو المنصب الذي تمت إقالته منه بأمر من رئيس الوزراء “أبي أحمد” كان مقيماً في الخرطوم بشكل دائم، وكان يلتقي وبشكل دوري مع  “Wahide Belay” سفير أثيوبيا السابق في الإتحاد الأفريقي والمتحدث السابق بإسم الخارجية الأثيوبية والذي تمت إقالته أيضاً، وعليه يمكن للقيادة السودانية مستقبلاً أن تعمل على التقارب مع أديس أبابا وكسب موقفها، فأثيوبيا كل الذي تحتاجه من السودان هو مزيداً من التعاون والتباحث الجاد في ملفات دول القرن الإفريقي بإعتبار أن الخرطوم أحد أهم الدول التي ترتكز عليها الإستراتيجية الدولية قبل الدخول لمنطقة القرن الإفريقي وهذا يتوافق مع رؤية السودان المستقبلية لتعزيز العلاقات السودانية الإفريقية .

د.أمينة العريمي

باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي

د.أمينة العريمي

أمينة العربمي باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي
زر الذهاب إلى الأعلى