أيام عشناها بفرحها وترحها(2)

بقلم: عبد الرحمن غوري

الذكريات حين تعود، تأتي كضيف ثقيل يحمل معه صدى الماضي. لا تستأذن حين تأتي بل تأخذك فجأة إلى تفاصيل قديمة تخالها طواها النسيان، تعود نابضة بكل ما فيها من ألم وحنين. إنها ليست مجرد لحظات عابرة، بل صفحات مكتوبة بمشاعر الخوف، والحزن، والحلم الذي كان يصارع للبقاء.

كانت أيام الحرب التي عشناها في طفولتنا عام 1977 محطات محفورة في وجداننا، ليست مجرد صور تتلاشى مع الزمن، بل أحداث تركت آثارا على حاضرنا ومستقبلنا.

في صباح التاسع من أبريل 1978، وبينما كنا نتأهب للذهاب إلى المدرسة، سمعنا فجأة أصوات الطلقات النارية ودوي المدافع. هرعنا إلى الخارج لاستكشاف ما يحدث، فرأينا العم عثمان، الجندي في الجيش، يخبر نسوة الحي بأن اللواء الثاني المدرع، الذي كان مقره قريباً من حينا، يتعرض لهجوم لم أكن أفهم معنى ما قاله حينها، لكنني شعرت بقلق عارم على أبي، الذي كان ضابط صف في كتيبة المدرعات بكلية الرفيق سياد.

انقطع إرسال راديو مقديشو لساعات طويلة، قبل أن يعود في فترة ما بعد الظهر ليعلن عن فشل الانقلاب الذي قاده ضباط متمردون تم القبض عليهم. ومع ذلك، لم تعد الأمور إلى طبيعتها سريعاً. أبي غاب عن البيت لثلاثة أشهر بسبب حالة الطوارئ التي فرضها النظام حينها، ولم يعد إلا بعد انتهاء حظر التجوال وعودة الجيش إلى ثكناته.

المدينة تغيّرت ملامحها، والأسواق فقدت صخبها المعتاد، وكنا نرى طوابير طويلة ممتدة تحت أشعة الشمس الحارقة، ينتظر فيها الناس ساعات للحصول على حصصهم القليلة من الطعام. وفي الزوايا المظلمة، كانت السوق السوداء تنشط، لكن التعامل بها مغامرة محفوفة بالمخاطر قد تودي بصاحبها إلى السجن أو الغرامة.

وبرغم قسوة الواقع، لم تخلُ تلك الأيام من لحظات خجولة من الفرح، كأنها زهور نبتت وسط صحراء قاحلة. كنا نلعب في الأزقة ليلاً، متحدّين الخوف والمجهول، وكأننا نحاول استعادة شيء من طفولتنا المسلوبة. وفي المساء، كان راديو مقديشو رفيقنا الوحيد، ينقل بصوت مذيعيه بيانات حكومية تضفي طابع الطمأنينة المصطنعة على واقع يتخبط في الفوضى.

كانت الأغاني الوطنية تُبث بلا انقطاع، كلماتها تملأ الأجواء، حفظناها عن ظهر قلب. لكنها مع الوقت أصبحت مجرد أصوات تعجز عن تضميد الجراح العميقة. ومع ذلك، كانت تلك الأغاني مرآة لإرادة البقاء التي لم تنكسر.

مرت تلك الأيام بطيئة وثقيلة، لكنها كانت مليئة بالدروس والعبر. تعلمنا من كل لحظة معنى الصبر، ومعنى التشبث بالحياة حتى في أصعب الظروف. تعلمنا أن الخوف، مهما كان كبيراً، يمكن مواجهته بشجاعة واصرار .

وبعد سنوات طويلة، تعود بي الذاكرة إلى تلك الأيام  وكأنها لوحة رسمتها الحياة بألوان متداخلة من الألم والأمل. ربما كان ما عشناه قاسياً إلى حد يعجز الوصف عن احتوائه، لكنه علّمنا أن النور يمكن أن يومض حتى في أحلك اللحظات.

تلك الأيام لم تكن مجرد فترة زمنية خالية، بل كانت فصلا خالدا من دروس الصمود، تبلورت فيه معاني الإرادة، وقيمة الحياة في مواجهة الأزمات.

وللحديث بقية

عبد الرحمن غوري

عبدالرحمن غوري باحث في الأدب والفلسفة
زر الذهاب إلى الأعلى