عبد الله الفاتح – كاتب صحافي
المقدمة:
شهدت منطقة جوبا السفلى بجنوب غرب الصومال تصعيدًا جديدًا في العلاقة المتوترة بين الحكومة الفيدرالية وولاية جوبلاند، حيث اندلعت اشتباكات عنيفة في بلدة رأس كمبوني الساحلية بين قوات الطرفين. هذه التطورات تأتي في أعقاب إعادة انتخاب رئيس ولاية جوبالاند، أحمد محمد إسلام مدوبي، في انتخابات مثيرة للجدل رفضت الحكومة الفيدرالية الاعتراف بشرعيتها.
خلفية الأزمة:
تُعد جوبالاند واحدة من الولايات الفيدرالية التي تتمتع بدرجة من الحكم الذاتي في الصومال، وتشمل ثلاثة أقاليم: جوبا السفلى، جوبا الوسطى، وجدو. وتمثل هذه الولاية أهمية استراتيجية كبرى، نظرًا لموقعها الحدودي مع كينيا وإثيوبيا، بالإضافة إلى احتضانها ميناء كسمايو، أحد أهم الموانئ البحرية في البلاد.
الأزمة الحالية تعود جذورها إلى الخلافات السياسية المتصاعدة بين قيادة الحكومة الفيدرالية في مقديشو وحكومة جوبالاند بشأن إدارة الانتخابات والإشراف عليها. فبينما ترى مقديشو أن الانتخابات الأخيرة التي أُعيد فيها انتخاب أحمد “مدوبي” رئيسا لولاية جوبلاند غير قانونية ولا تعكس إرادة سكان الولاية، تصر جوبالاند على أنها أجريت وفقًا لمعاييرها الدستورية، متهمة الحكومة الفيدرالية بمحاولة التدخل في شؤونها الداخلية لفرض سيطرتها على المنطقة. وهو ما يزيد من تعقيد المشهد السياسي في البلاد.
تطورات الأحداث في رأس كمبوني:
اندلعت المواجهات الأخيرة يوم الأربعاء في بلدة رأس كمبوني الساحلية، حيث تحركت القوات الفيدرالية الصومالية إلى المنطقة التي تُعد معقلًا استراتيجيًا لقوات جوبالاند. وبعد معارك ضارية، تمكنت قوات جوبالاند من فرض سيطرتها على البلدة، مما دفع الحكومة الفيدرالية إلى إصدار أوامر بسحب قواتها من المنطقة.
وفي بيان رسمي، أوضحت الحكومة الفيدرالية أن انسحاب قواتها جاء في إطار “الحرص على تجنب التصعيد وحماية الأرواح، خاصة دماء الشباب الصومالي”، وفقًا لما نقلته وكالة الأنباء الصومالية.
تحليل أبعاد الصراع:
- البُعد السياسي:
يعكس النزاع بين الحكومة الفيدرالية وولاية جوبالاند تصدعات جوهرية في النظام الفيدرالي الصومالي، حيث تُظهر العلاقة المضطربة بين الطرفين ضعف الآليات المؤسسية اللازمة للتنسيق وحل النزاعات. ويتجلى هذا الخلاف كجزء من أزمة أعمق تتعلق بتوزيع السلطات والثروات، مما يعكس التحديات المستمرة التي تواجه الدولة الصومالية في إدارة هيكلها الفيدرالي. هذا النزاع لا يقتصر على صراع سياسي بين المركز والأقاليم، بل يُبرز التوترات البنيوية في النظام السياسي الصومالي، حيث تسعى الولايات إلى تعزيز استقلالها الذاتي ضمن إطار الفيدرالية، بينما تحاول الحكومة الفيدرالية إحكام سيطرتها لضمان وحدة الدولة ومركزية القرار في مواجهة تحديات الأمن والتنمية.
وتُظهر هذه الاشتباكات العسكرية في جوبالاند فشل القيادة الصومالية في بناء رؤية وطنية شاملة تستوعب مصالح الأقاليم واحتياجاتها ضمن إطار اتحادي متماسك. وإذا لم يتم اتخاذ خطوات جادة نحو صياغة آليات فعالة لحل النزاعات وتوزيع الصلاحيات بشكل عادل، فإن هذه الخلافات مرشحة للاستمرار، مما يهدد بمزيد من التدهور في الاستقرار السياسي والأمني للبلاد.
- البُعد الأمني:
يشكل النزاع العسكري بين الحكومة الفيدرالية وولاياتها الفيدرالية تهديدًا خطيرًا للجهود المشتركة في مواجهة التحديات الأمنية الكبرى التي تمثلها حركة الشباب المتطرفة. إذ يعكس استمرار هذا الصراع فشلًا في تنسيق الاستراتيجيات الأمنية بين المركز والأقاليم، ما يضعف بشكل مباشر القدرة على مواجهة الجماعات المسلحة التي تهدد الاستقرار في البلاد. في ظل هذا الانقسام السياسي، قد تجد حركة الشباب وغيرها من الجماعات المتطرفة فرصة لتعزيز نفوذها، مستغلةً حالة الفوضى السياسية والضعف الأمني في بعض المناطق.
لا شك أن تفاقم التوترات بين الحكومة الفيدرالية والولايات يشكل أرضًا خصبة لزيادة تعقيد المشهد الأمني، وقد تعجز الأطراف عن توحيد الصفوف لمكافحة الإرهاب بشكل فعال. كما أن انعدام التنسيق بين السلطات الفيدرالية والمحلية يمكن أن يُسهم في تفاقم التهديدات الأمنية، ويزيد من صعوبة تحقيق الاستقرار في المنطقة.
- الأهمية الاستراتيجية لجوبالاند:
تمثل جوبالاند نقطة محورية في الصراع بسبب موقعها الجغرافي المتميز، خاصة مع احتضانها ميناء كسمايو الذي يُعد شريانًا اقتصاديًا هامًا. كما أن حدودها المشتركة مع كينيا وإثيوبيا تجعلها ساحة تنافس إقليمي، حيث تسعى القوى الإقليمية إلى تعزيز نفوذها في هذه المنطقة الحساسة.
- تداعيات الانتخابات:
إعادة انتخاب أحمد مدوبي كرئيس لجوبالاند مثّلت تحديًا كبيرًا للحكومة الفيدرالية، التي ترى في مدوبي حليفًا قويًا لكينيا، الدولة المجاورة التي تتمتع بنفوذ كبير في جوبالاند. وهو ما يضيف بُعدًا إقليميًا للأزمة.
الطريق نحو الحل:
تُعد أزمة جوبالاند مثالاً بارزًا على التحديات التي يواجهها الصومال في سعيه لبناء نظام فيدرالي مستقر وفعال. وفي هذا السياق، تبرز الحاجة الملحة إلى عدة خطوات حاسمة. أولاً، يجب أن يكون هناك حوار وطني شامل بين الحكومة الفيدرالية وولاياتها الفيدرالية، يهدف إلى تسوية الخلافات المتعلقة بالانتخابات وتقاسم السلطات، وتطوير آليات للتفاهم والتنسيق بما يضمن مصلحة الجميع.
ثانيًا، يتطلب الوضع إعادة تقييم شاملة للنظام الفيدرالي الحالي، بما في ذلك القوانين والآليات التي تنظم العلاقة بين الحكومة المركزية والولايات. هذه المراجعة ينبغي أن تضمن توزيعًا عادلًا للسلطات والموارد بين الأطراف المختلفة، مع الحفاظ على وحدة الدولة واستقرارها.
وأخيرًا، يجب تعزيز التنسيق الأمني بين الحكومة الفيدرالية وولاياتها لمواجهة التحديات الأمنية المشتركة بفعالية، وفي مقدمتها تهديدات الجماعات المسلحة. التوحيد في الاستراتيجيات الأمنية يعزز قدرة الدولة على حماية أمنها واستقرارها، ويحد من قدرة العناصر المتطرفة على استغلال الانقسامات الداخلية.
الخلاصة:
تظل أزمة جوبالاند نموذجًا حيًا للتحديات السياسية والأمنية التي تواجه الصومال في مساعيه لتحقيق الاستقرار والتنمية. إن استمرار هذه النزاعات يعكس عمق الانقسامات الداخلية التي تهدد تماسك الدولة ووحدتها. وفي غياب الحلول الجذرية، قد تستمر هذه الخلافات في تعقيد الوضع السياسي، مما يزيد من صعوبة بناء دولة فاعلة قادرة على مواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية. لذلك، يتطلب الأمر استجابة عاجلة وموحدة من الحكومة الفيدرالية وولاياتها، تهدف إلى تحقيق المصالحة الوطنية وتعزيز آليات التنسيق والتعاون بين مختلف الأطراف. فقط من خلال الحوار البناء والإصلاحات الجذرية، يمكن للصومال أن يمهد الطريق نحو مستقبل أكثر استقرارًا وازدهارًا.