نحو سودان جديد “رؤية إستشرافية”

 بنجاح الجيش السوداني منذ يوليو الماضي في تكريس مفهوم الإنشقاق المعنوي بين فرق ومنتسبي مليشيات الدعم السريع والتي ظهرت واضحة جلية بمقتل “عبد الرحمن البيشي” قائد المليشيا في ولايتي سنار والنيل الأزرق، إلى إنشقاق “أبوعاقلة كيكل” وإنضمامه للجيش،  والذي تبعه هروب مجموعة من مستشاري المليشيا إلى بورتسودان، مروراً بنجاح المؤسسة العسكرية السودانية الوطنية بفرض إستراتيجية “تدحرج الرؤوس” التي طالت كبار قادة المليشيا واحداً تلو الأخر، إلى إنطلاق معركة الخرطوم المباركة التي كان رديفها الأول للنجاح الإلتفاف الشعبي الواسع الذي إفتقرت المليشيا في فرضه ناهيك عن تكوينه، إلى بيان الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو غوتيرش” مؤخراً والقاضي بعدم توفر الظروف اللازمة لنشر قوات أممية في السودان والذي جاء قاطعاً لطريق مخطط مليشيا الدعم السريع بإنشاء مناطق سيطرة خاصة بها تمهيداً لإعلان حكومة في تلك المناطق تعزز للمليشيا حضوراً مستقبلياً في الساحة السودانية، ولدت رؤية دولية وإقليمية “خاصة” ترى في المؤسسة العسكرية السودانية ما لم تكن تراه منذ إستقلال السودان الحديث 1956، تتلخص تلك الرؤية في الأتي :

  • المؤسسة العسكرية السودانية باتت هي الجهة الأولى والأخيرة والوحيدة القادرة على فرض الإجماع الشعبي حولها وبكامل إرادته متى ما أرادت ذلك، وبالتالي لا إستراتيجية خارجية ستفرض إلا عبر الإرادة الشعبية، وهذا ما ساهم في بروز المؤسسة العسكرية السودانية “إقليمياً، ودولياً” اليوم بصورة لم يحظى بها نظام الإنقاذ طوال فترة حكمه، وهذه دلالة لها ما بعدها لمن يدرك ويعي وعي الشعوب عند إرتباطها بوطن وليس بحاكم.
  • رؤية العالم لسودان ما بعد البشير قطعاً ليست هي ذات الرؤية “لسودان الإنقاذ 1989-2019″، فتجربة الحرب الأخيرة لوحدها كفيلة بفرض حقيقة وواقع جديد وإن لم يكن غير متوقع.
  • إنتصار الجيش السوداني في هذه الحرب المتعددة “الجنسيات، والتوجهات، والإمداد” قطعاً له أثره الإستراتيجي والأمني والسياسي على كافة دول الجوار الإقليمي للسودان التي تدرك تماماً تواضع مستوى صمود مؤسساتها الوطنية في حال تعرضها لذات المأزق الذي تعرض له الجيش السوداني، وهذا يعني أنها باتت تدرك أن هناك “ميزان قوى” جديد بدأ يتشكل ويلوح في الأفق، وهو ميزان لا يرتكز على كثرة العتاد العسكري بمقدار ما يرتكز على العقيدة العسكرية التي تأسست عليها كافة المؤسسات الأمنية الوطنية الحقيقية البعيدة عن الإشراف الخارجي والإدارة الأجنبية.

لتعزيز دور الدبلوماسية السودانية على المدى القريب والذي سينعكس إيجاباً على سير العمليات العسكرية للجيش السوداني في المحاور الغربية “غرب السودان” أرى أن هناك خيارين لا ثالث لهما وللخرطوم مطلق الحرية في إختيار إحداها:

  • الخيار الأول: إما أن تقوم الخرطوم بترتيب للقاء “خاص” مع وزيرة خارجية إفريقيا الوسطى “Sylvie Baïpo-Temon” للإطلاع بشكل دقيق على رؤية القيادة السياسية في إفريقيا الوسطى في مسألة التوافق والتعاون مع الحكومة السودانية لإضعاف كافة الشبكات الأمنية والإستخباراتية الداعمة لمليشيا الدعم السريع والتي بدأت بانغي بتفعيلها مؤخراً. ( يمكن للخرطوم عقد هذا اللقاء مع إنطلاق المؤتمر الوزاري الأول بين روسيا وإفريقيا الذي سيعقد في موسكو نوفمبر القادم ) .
  • الخيار الثاني: وإما أن يتم إرسال وفد أمني سوداني رفيع المستوى لمقابلة الرئيس “فوستن توديرا” والإتفاق على دعم مبادرته الأخيرة الداعمة للجيش السوداني، حيث قدم “توديرا” مبادرته للسفير الروسي في السودان وأكد فيها ضرورة العمل على دعم المؤسسة العسكرية السودانية الوطنية. (ولإنجاح هذه المبادرة أقترح أن يتم الإستعانة بسعادة السفير السابق “الدكتور عطا المنان بخيت الحاج” بإعتباره أحد أهم الشخصيات السودانية التي تحظى بقبول واسع لدى القيادات الأمنية والسياسية والشعبية في إفريقيا الوسطى وذلك لدوره التاريخي في قيادة إتفاقية السلام في إفريقيا الوسطى 2019، وإطلاعه الواسع والدقيق على مجتمعات الغرب والوسط الإفريقي “الفرانكفونية”).

وبعد التوافق التام مع حكومة إفريقيا الوسطى والتأكد من جديتها في قطع الطريق على إمداد مليشيا الدعم السريع يمكن للخرطوم بعد ذلك إبداء الموافقة على حل معضلة حكومة الرئيس “فوستن توديرا” المتمثلة في منطقة “PK5 ” التي خرجت عن سيطرة الدولة منذ عام 2010 والتي تستطيع الخرطوم تهدئة الفصائل المسلحة فيها مثل قدرتها على تحريكهم، ومن ناحية أخرى تطمح بانغي أن تنخرط الخرطوم في الجهود التي تبذلها منظمة “Sant Egidio” لتحقيق التوافق الكامل بين حكومة “تواديرا” وبين الحركات المسلحة المعارضة أهمها حركة ما تعرف بالفرنسية بــ “Mouvement pour la Paix en Centrafrique \ حركة السلام في وسط إفريقيا” أحد أهم الجماعات المسلحة المؤرقة للنظام السياسي في إفريقيا الوسطى  وقرب جزء من قادة تلك الحركات من الأجهزة الأمنية السودانية.

ومن ناحية أخرى، ومع بدء العد التنازلي إيذاناً بنهاية الأزمة السودانية لصالح الجيش السوداني، تصاعدت أصوات سودانية وتشادية وإفريقية تطالب الرئيس التشادي “محمد إدريس ديبي” قبل إستحكام وتضييق الحلقات الداخلية والإقليمية على أنجامينا بضرورة إغلاق مطار أمجراس وإن لزم الأمر إلى حرقه قبل أن تحترق تشاد “وفقاً لتصريحاتهم”، وبعد ذلك يمكن العمل على إعادة تجديد الطلب التشادي “السابق” للإجتماع مع الحكومة السودانية، ولكن أرى بأن تلك المطالبات الشعبية والتي إمتدت لبعض الدول الإفريقية لن تجد أذاناً صاغية في أنجامينا على الأقل الأن، ولا يعني ذلك أنها مرفوضة “تشادياً” بل هي مقبولة حتى على مستوى القيادات السياسية والأمنية والإستخباراتية، بل ترى أنجامينا في تلك المطالبات فرصة “ثمينة” لإعادة ترتيب البيت التشادي من الداخل، وإحباط كافة المحاولات الساعية لإبعاد “أل ديبي” من حكم البلاد ولكن ما يعترض تنفيذها “وفقاً لوجهة نظر تشادية” هي التقاطعات التي فرضت واقعاً مختلفاً لا تريده تشاد ولا يريده رئيسها ولا يريده شعبها، وبالتالي أمام الخرطوم لتطوير مراقبة الطرق المغذية لإمداد الدعم السريع وإبقاء أنجامينا تحت المراقبة يقترح العمل على تشكيل فريق عمل سوداني خاص لدراسة ومتابعة نشاط شركة “PLHDG” للخدمات اللوجستية التابعة للحكومة التشادية، والمتورطة بصفقات “مشبوهة” مع مليشيات الدعم السريع، والتي تناولتها الكثير من التقارير الأمنية بإعتبارها أحد أهم الأذرع الإستخباراتية لأنجامينا لشراء المعدات العسكرية بطريقة “سرية”. ( متابعة السودان الدقيقة لسير تلك الشركة ودورها سيمنح الخرطوم وضع الإستراتيجيات الإستباقية لإضعاف نشاط تلك الشركة خاصة أنها شركة تدار من قبل أشخاص يمكن إختراقهم في ظل تصاعد حالة التوجس والحذر بين المؤسسة الرئاسية التشادية وبعض القيادات الأمنية بعد إقالة وتعيين جزء من الكوادر الأمنية والإستخباراتية، ومن ناحية أخرى أرى أن ذلك سيعزز فرص المؤسسة العسكرية السودانية في معرفة نوعية العتاد العسكري سواء الذي بحوزة الدولة التشادية أو ذلك الذي يتم توريده للمليشيات، وبالتالي سيفرض ذلك طريقة خاصة لتطوير القدرات اللوجستية السودانية بشكل مستمر ويفوق كفاءة ذلك العتاد) .

التوصيات

  • عقد إتفاقيات أمنية وإستخباراتية مع جمهورية رواندا بإعتبارها قائدة إستراتيجية الأمن الإقليمي للقارة الإفريقية، ودورها البارز في منطقة البحيرات العظمى، وأرى أن إتفاقية كهذه بين “الخرطوم” و “كيغالي” كفيلة بتضييق هوة التباعد السياسي “الصامت” مع السودان، والذي تمثل بتماهي الموقف الرواندي مع الموقف الكيني “الإيجابي” من الدعم السريع، ليس لقناعة كيغالي بالمليشيا، ولكن إرضاءاً لحليفتها “نيروبي”، رغم توجس كافة المكونات الشعبية الإفريقية من منطقة البحيرات إلى الساحل الإفريقي من مشروع “حميدتي” العابر للحدود والمقوض لسيادة الدولة الوطنية الإفريقية، وهذا ما يجب على الدبلوماسية السودانية أن تبرز خطره لكافة المكونات الإفريقية تكريساً لتضاعف الجهود الإقليمية لإضعافه ومحاصرته.
  • التركيز على خط  سير الحراك البريطاني الأخير في الملف السوداني، وأرى إلى أن هناك طلباً بريطانياً سيتقدم إلى الخرطوم  قريباً  للتنسيق والتعاون مع المركز الأفريقي للتحول الإقتصادي الذي يقع في إحدى عواصم الغرب الإفريقي والمرتبط بشكل وثيق مع أحد أبرز مراكز الفكر البريطانية التي تعمل على صياغة إستراتيجية جديدة مستقبلية للقارة الأفريقية تتوافق مع تطلعات حزب العمال البريطاني التي أعتمد عليها ويدعمها رئيس الوزراء ” كير ستارمر”.
  • الإستثمار في الطموح الشخصي للورد “راي كولينز” الباحث المتخصص في الشأن الأفريقي، والذي يشغل اليوم منصب وكيل وزارة الخارجية البريطاني للشؤون الإفريقية، والذي يتطلع إلى لعب دور سياسي أمني في السودان. ( في ظل إستراتيجية بريطانيا المستقبلية في إفريقيا ترى بريطانيا في السودان جسراً للوصول إلى الدول الإفريقية التي تقع خارج منطقة النفوذ التقليدية “إفريقيا الوسطى، تشاد”).
  • تطوير العلاقات الأمنية والعسكرية مع أنقرة والإستعانة بالشركات العسكرية التركية لتطوير قدرات الجيش السوداني مثل شركة “Katmerciler” الخاصة بتصنيع المركبات المدرعة والتي أصبح دورها بارزاً في منطقة البحيرات الإفريقية وبعض دول الغرب الإفريقي.
  • لتجديد الشراكات الإستراتيجية الفاعلة لتطوير قطاع القوات الجوية يمكن للخرطوم فتح خط تعاون مع المورد التركي الأبرز في القارة الإفريقية “Baykar” لدوره في تطوير الجيوش الأفريقية بدليل تزويده لطائرات بدون طيار من طراز “Bayraktar TB2” لرواندا ومن طراز “TB2 and Akinci” لأثيوبيا .
  • نظراً لما أفرزته الحرب من تدمير لقطاع الكهرباء والصحة في معظم المدن والقرى السودانية يقترح العمل على التعاقد مع شركة “Karpowership” التركية المتخصصة في تطوير قطاعات الكهرباء والتي ساهمت بدور كبير وملموس في تحسين جودة الكهرباء في معظم الدول الإفريقية وعلى رأسهم “جنوب إفريقيا”، أما إصلاح وتطوير قطاع الصحة أرى أن تعمل الخرطوم على التنسيق مع دولة قطر لشراكة  “الدوحة” في حملة “التمريض الأن” العالمية برعاية المجلس الدولي للممرضيين في جنيف، خاصة أن هناك عدد من الدول الإفريقية إستفادت من تلك المبادرة القطرية “نيجيريا، أوغندا، مالاوي، السيراليون” والتي إنطلقت في يوليو 2019 في مؤتمر القمة العالمي للإبتكار في الرعاية الصحية “WISH” الذي أعلن أن هناك تقديرات تؤكد أنه سيكون عجز في الكوادر الطبية المساعدة على مستوى العالم بحلول عام 2030 ” .
  • العمل على وضع خارطة مستقبلية “سياسية، إقتصادية، أمنية، إستخباراتية، ثقافية” لتعزيز الحضور الدبلوماسي السوداني في كافة دول الغرب الإفريقي، وليكن البدء بحضور المؤتمرات والمعارض الخاصة بالشركات الدولية العاملة في إفريقيا والتي تستضيفها بعض دول غرب إفريقيا وهذا ما سيعزز برأيي الشراكات الإقتصادية مع دول تلك المنطقة، وسينعكس بالتالي على مستقبل الدبلوماسية السودانية في دول غرب إفريقيا التي أثبتت أهميتها الأزمة السودانية الأخيرة.

د.أمينة العريمي \ باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي

د.أمينة العريمي

أمينة العربمي باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي
زر الذهاب إلى الأعلى