أجرى التحقيق: عبد الله الفاتح
في ظل الأزمات السياسية والاجتماعية المتتالية التي تعصف بالصومال منذ ثلاثة عقود، يظل التعليم هو الأمل الوحيد لإنقاذ البلاد وبناء مستقبل أفضل للأجيال القادمة. إلا أن قطاع التعليم في الصومال يعاني من تحديات ضخمة، أبرزها الفساد وسوء الإدارة داخل وزارة التعليم العالي. وقد تسببت هذه الأزمة في تدهور التعليم، وتراجع مستويات التحصيل العلمي وزيادة معدلات التسرب الدراسي. فما هي جذور هذه الأزمة؟ وكيف وصل الحال إلى هذا الوضع الكارثي؟
الفساد: عائق أمام التقدم التعليمي:
تشير العديد من التقارير المحلية والدولية إلى انتشار الفساد داخل وزارة التعليم العالي، مما أثر بشكل مباشر على أداء القطاع التعليمي. ويتهم العديد من المعلمين وأولياء الأمور المسؤولين في الوزارة بالاستيلاء على الميزانيات المخصصة للتعليم واستخدامها في غير مكانها، حيث تُهدر الأموال على مشروعات غير مكتملة أو وهمية، في حين تظل المؤسسات التعليمية الرسمية تعاني من نقص حاد في الموارد الأساسية.
أحد المعلمين في مقديشو يقول:
“لقد تعبنا من المطالبة بالمعدات الأساسية، بينما يتم الإعلان عن مشروعات ضخمة لتحسين التعليم. لكن على أرض الواقع، لا نرى أي تغيير. يبدو أن الأموال تذهب إلى جيوب الفاسدين بدلاً من تحسين المدارس.”
منهج جديد مثير للجدل:
في خطوة أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط الأكاديمية بالصومال، يسعى وزير التعليم العالي إلى فرض منهج دراسي جديد على الجامعات في البلاد، بداية من جامعة الأمة. هذه الخطوة التي وُصفت بأنها تهدف إلى “توحيد معايير التعليم” تواجه معارضة شديدة من قبل الأكاديميين، الذين يرون فيها تهديداً لاستقلالية الجامعات وتدخلاً وزاريًا غير مبرر.
محاولات السيطرة على التعليم
وفقًا لمصادر موثوقة يسعى الوزير إلى فرض سيطرته الكاملة على المؤسسات التعليمية من خلال هذا المنهج، الذي تم إعداده واعتماده دون التشاور مع الخبراء أو المسؤولين الأكاديميين في الجامعات. هذا التوجه يأتي في إطار جهود الوزارة لإعادة هيكلة النظام التعليمي، إلا أن كثيرين يرون أن هذه الجهود تنطوي على أبعاد سياسية أكثر منها أكاديمية.
أحد الأساتذة الجامعيين في جامعة الأمة، الذي فضل عدم الكشف عن هويته، صرح قائلاً: “القرار يفتقر إلى الأساس العلمي. لم يتم التشاور معنا، والأمر يبدو وكأنه محاولة لفرض رؤية معينة على جميع المؤسسات التعليمية. هذا المنهج لا يناسب جميع التخصصات ولا يلبي احتياجاتنا كجامعات مستقلة”.
رفض أكاديمي واسع
يواجه هذا التوجه معارضة من قبل شريحة كبيرة من الأكاديميين في الصومال، الذين يرون أن فرض المنهج الجديد سيؤثر سلباً على جودة التعليم في البلاد. ويقول أحد الخبراء: “الجامعات بحاجة إلى استقلالية لتحديد مناهجها بناءً على احتياجات الطلاب ومتطلبات سوق العمل. محاولة الوزارة فرض هذا المنهج الموحد قد تؤدي إلى تراجع التنوع الأكاديمي”.
وأضاف: “إذا تم تنفيذ هذا المنهج، سيصبح التعليم في الصومال أداة في يد الوزير، وسيمنع المؤسسات التعليمية من الإبداع أو الابتكار. هذا قد يُضعف الجامعات ويجعلها تابعة للحكومة بدلاً من أن تكون مراكز علمية حرة ومستقلة”.
آثار سياسية واجتماعية
الجدل حول فرض هذا المنهج الجديد يتجاوز نطاق الجامعات ليصل إلى الساحة السياسية. يعتقد بعض المحللين أن هذه الخطوة تأتي ضمن سياق أوسع يتعلق بمحاولة الوزارة بسط سيطرتها على كافة المؤسسات التعليمية.
وأشار أحد الخبراء في مجال التعليم، والذي كان يعمل سابقاً مستشاراً للوزارة: “الهدف من هذه الخطوة قد يكون أبعد من تحسين جودة التعليم. يبدو أن هناك نية لتشكيل التعليم وفق توجهات معينة تخدم مصالح الحكومة وتوجهاتها السياسية”.
نقص الموارد وتجاهل الوزارة:
بالرغم من أن الوزارة تعلن مرارًا وتكرارًا عن خطط لتطوير التعليم، إلا أن الواقع يعكس صورة مختلفة تمامًا. هناك نقص حاد في الكتب الدراسية، وغياب التدريب الكافي للمعلمين، وضعف البنية التحتية للمدارس. علاوة على ذلك، فإن رواتب المعلمين لا تُدفع بانتظام، مما يدفع الكثير منهم إلى ترك المهنة أو البحث عن وظائف أخرى.
طالب جامعي من مقديشو يعلق قائلاً:
“لا يمكننا الاعتماد على التعليم هنا. نحن ندرس في فصول مكتظة، والأساتذة يفتقدون إلى الدافعية بسبب الرواتب المتدنية. كما أن التعليم ليس من أولويات الحكومة.”
المحسوبية والولاءات السياسية:
جانب آخر من الأزمة يتعلق بتعيين المسؤولين في الوزارة بناءً على الولاءات السياسية والمحسوبية بدلاً من الكفاءة والخبرة. هذا النمط من التعيينات أدى إلى ضعف الإدارة وسوء التخطيط، حيث أن الكثير من القيادات التعليمية غير مؤهلة لإدارة هذا القطاع الحساس.
أحد المسؤولين السابقين في الوزارة، الذي فضل عدم الكشف عن اسمه، يقول:
“التعيينات في الوزارة تعتمد على العلاقات السياسية وليس على الكفاءة. لذلك نجد أن الكثير من القرارات تُتخذ دون دراسة حقيقية لاحتياجات القطاع التعليمي. النتيجة هي فشل ذريع في تحسين التعليم.”
المساءلة الغائبة:
مع كل هذه التحديات، يظل غياب المساءلة هو العائق الأكبر أمام الإصلاح. لم يتم التحقيق بشكل جدي في العديد من قضايا الفساد التي تم الإبلاغ عنها، ولم يتم اتخاذ أي إجراءات حقيقية ضد المسؤولين المتورطين. هذا الوضع يشجع على المزيد من الفساد، حيث يشعر المسؤولون بأنهم فوق القانون.
أحد النواب البرلمانيين يقول:
“نحن نطالب بالشفافية والمساءلة في وزارة التعليم، ولكن حتى الآن، لا توجد تحقيقات جدية. الفساد مستمر والطلاب هم الضحية الأولى.”
مشروع قانون التعليم العالي المثير للجدل:
لقد أثار مشروع قانون التعليم العالي الذي قدمته وزارة التعليم في الحكومة الفيدرالية الصومالية إلى البرلمان، أثارا جدلا واسعا، خاصة فيما يتعلق ببعض المواد والنصوص التي تضمينها دون استشارة كافية مع أصحاب المصلحة، بما في ذلك الجامعات والمؤسسات التعليمية الأخرى، وقد تمحورت أهم النقاط المثيرة للجدل حول ما يلي:
- صلاحيات واسعة للوزارة: المشروع يمنح وزارة التعليم صلاحيات موسعة فيما يتعلق بتنظيم وإدارة قطاع التعليم العالي، مما أثار مخاوف من تدخل غير مبرر في استقلالية الجامعات.
- آلية اعتماد الجامعات: يتضمن القانون آليات صارمة لاعتماد الجامعات والبرامج الأكاديمية، وهو ما يعتبره اتحاد الجامعات تدخلاً في حرية المؤسسات الأكاديمية لتطوير مناهجها وبرامجها بناءً على احتياجات المجتمع.
- تمويل التعليم العالي: لم يتناول القانون بشكل واضح مسألة تمويل التعليم العالي، وترك المجال غامضًا فيما يخص كيفية تخصيص الموارد وضمان استدامة المؤسسات التعليمية.
- التدريب العملي (الإنترن-شيب): القانون وضع شروطًا جديدة على تدريب الطلاب في المجالات العملية، خاصة في الكليات الصحية مثل الطب، حيث أُثيرت مخاوف من تأثير ذلك على جودة التدريب العملي وفرص الطلاب للحصول على التعليم التطبيقي المناسب.
- عدم إشراك الجامعات في صياغة القانون: أثار مشروع القانون استياء قطاع التعليم العالي لعدم استشارتهم خلال عملية الصياغة، مما جعلهم يشعرون أن القانون لا يعبر عن احتياجات ومتطلبات القطاع.
مواقف الجهات المعنية:
- اتحاد الجامعات الصومالية: عبر عن رفضه لبعض بنود القانون وطلب إدخال تعديلات تضمن احترام استقلالية الجامعات.
- مجلس الشعب: قام بمناقشة القانون وأشار بعض النواب إلى وجود بنود تحتاج إلى تعديل لضمان أن يعكس القانون الواقع الحالي واحتياجات التعليم في البلاد.
الآثار على المستقبل:
إن استمرار أزمة التعليم في الصومال يهدد المستقبل الاجتماعي والاقتصادي للبلاد. التعليم هو الأساس الذي يُبنى عليه النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي. بدون نظام تعليمي قوي وشفاف، ستظل البلاد عالقة في دائرة الفقر والجهل.
هل هناك أمل في الإصلاح؟
رغم كل التحديات، لا يزال هناك أمل في تحسين التعليم في الصومال. يجب على الحكومة أن تتخذ خطوات جادة لمكافحة الفساد وتحسين إدارة الموارد المخصصة للتعليم. ويجب أن يكون هناك دور أكبر للمجتمع المدني في مراقبة أداء الحكومة والضغط من أجل إصلاحات حقيقية.
خبير تعليمي يقول:
“الإصلاح ممكن، ولكن يحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية وشفافية في إدارة الموارد. التعليم يجب أن يكون أولوية وطنية وليس مجرد شعار سياسي.”
صمت الوزارة يزيد من الشكوك حول الشفافية والمساءلة:
وخلال إجراء تحقيقنا حول أزمة التعليم والاتهامات المتعلقة بالفساد داخل وزارة التعليم العالي في الصومال، حاولنا التواصل مع الوزارة للحصول على رد رسمي على هذه الاتهامات. ورغم تكرار محاولاتنا، إلا أننا لم نتلق أي تجاوب أو رد رسمي منهم.
هذا الصمت يثير العديد من التساؤلات حول مستوى الشفافية والمساءلة داخل الوزارة، ويزيد من الشكوك حول مدى التزامها بالتعامل الجاد مع التحديات التي تواجه القطاع التعليمي في البلاد.
الخاتمة:
إن التعليم في الصومال يواجه أزمة كبيرة لا يمكن تجاهلها. الفساد وسوء الإدارة يعوقان تقدم هذا القطاع الحيوي. على الحكومة أن تتحمل مسؤوليتها وتعمل على إصلاح النظام التعليمي، وتطبيق معايير الشفافية والمساءلة. بدون هذه الخطوات، سيظل التعليم في الصومال يعاني، وسيظل مستقبل الأجيال القادمة في خطر.
عبد الله الفاتح – كاتب صحفي