مفاوضات جنيف، “فرملة سياسية”

جاءت تصريحات مبعوث الولايات المتحدة للسودان “توم بيرييلو” بشأن مفاوضات جنيف المرتقبة في الشهر الجاري لحلحلة الأزمة السودانية متوافقة مع المزاج الشعبي السوداني الذي ما زال منتشياً بنجاح الجيش السوداني في السيطرة على محور جنوب غرب أمدرمان “أمبدة، حمد النيل” أكبر معاقل مليشيا الدعم السريع، ومقتل العميد “عبدالله النيل” أحد أبرز قيادات المليشيا، ولاقت تلك التصريحات ترحيباً واسعاً لدى المكون الإفريقي والعربي خاصة أن “بيريليو” أكد أن هذه المفاوضات ستبنى على أسس إتفاقية جدة مع أولية تنفيذ ما تم الإتفاق حوله، إلا إنني أرى أن تصريحات المبعوث الأمريكي بمثابة فرملة سياسية بكل المقاييس أدركت ضرورتها واشنطن بعد توالي حصاد رؤوس القيادات العليا للمليشيا، وسيطرة القوة المشتركة السودانية على وادي أمبار شمالي دارفور، وتكبيد المليشيا خسائر متواصلة بدءاً من دحرها في منطقة ” قُلي” بمحلية التضامن بإقليم النيل الأزرق مروراً بإحباط تهريب شحنة مكونة من “10”مسيرات معدة للإطلاق في ولاية نهر النيل، وهذا ما يفسر إطلاق واشنطن على لسان مبعوثها تصريحها الأبرز والغير متوقع بقولها “السودانيون لا يرغبون بأي دور سياسي للدعم السريع في المستقبل ونحن ندعم ذلك”، ليأتي بعده بدقائق تأكيد الخارجية الأمريكية على إعترافها بالفريق أول البرهان كرئيس لمجلس السيادة وإستعدادها لعقد لقاء مع القيادات العسكرية السودانية للتشاور قبل بدء مفاوضات جنيف في دلالة واضحة على جدية الإدارة الأمريكية لحلحلة الأزمة حفاظاً على عدم خروج الأمور عن السيطرة وضمان سيرها وفقاً لما يراد لها أن تصل إليه.

أرى أن رمزية مفاوضات جنيف القادمة تحمل في طياتها رسالة مبطنة أو فلنقل إصرارغربي إجهاضاً لمبدأ الإيمان بإستراتيجية الحلول الإفريقية للأزمات الأفريقية التي طالما تغنت بها كبرى العواصم الأفريقية المناط إليها قيادة القارة مستقبلاً، وإنتزاعاً لما تبقى من هيبة المؤسسات الإقليمية الأفريقية في نفوس مواطنيها تعميقاً لذلك الحاجز الفكري والنفسي الذي ما زال يقبع في نفوس الأفارقة، وفي ذات الوقت تكريساً لثقافة “فصل الإنتماء” بين كافة المكونات الإفريقية، وهذا قطعاً لم يأتي مصادفة ولكن حالة الوعي السياسي التي باتت تتصاعد وتيرتها بين المكونات الشعبية الأفريقية منذ عام 2020 حتى اليوم كان لابد لها من ضبط خارجي وإعادتها لمربعها الأول حتى تبقى تحت السيطرة.

مفاوضات جنيف يجب أن تتمحور أجندتها على المطالب الثلاث التالية:

المطلب الأول: لا عودة لما قبل 15 أبريل 2023 ، والتوافق الكامل على إنهاء مليشيا الدعم السريع ونزع سلاحها، بعد إدراك العالم أجمع بأن لا مستقبل لسودان جديد مستقر بوجود تلك المليشيا، خاصة أن طرح فكرة إدماج قوات الدعم السريع في الجيش السوداني لم تعد مقبولة شعبياً، وتدرك واشنطن بأن عملية إقصاء مليشيات الدعم السريع عن المشهد السياسي السوداني وإن كانت ليست مستحيلة إلا أن الظروف المحيطة اليوم بالدولة السودانية وتنامي عمليات الإمداد العسكري للمليشيات تجعل الإقصاء صعباً، حتى وإن إندمجت تلك الميلشيات في صفوف المؤسسة العسكرية الوطنية السودانية فستبقى مليشيات “ليست وطنية”، وبالتالي هي قادرة على الإنشقاق عن الجيش وإعادة ترتيب صفوفها وفرض واقع جديد متى ما تسنى لها ذلك، ويبقى ذلك هو التحدي الأكبر الذي سيواجهه “بيريليو” وهو تنفيذ أولوية الإدارة الأمريكية في وقف الدعم الأجنبي لمليشيات الدعم السريع، وبالتالي لابد من جدية واشنطن في تجفيف منابع الإمداد العسكري للمليشيات.

المطلب الثاني: تنفيذ إعلان جدة الموقع في مايو 2023 

المطلب الثالث: تمكين وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق، ومعالجة كافة شواغل الحكومة السودانية قبل البدء في أي مفاوضات.

المطلب الرابع: تقديم كشف أمني مفصل لكافة العناصرالأمنية والعسكرية ” السودانية والغير سودانية” التي شاركت المليشيا في العمليات العسكرية 

رغم نجاح المؤسسة العسكرية السودانية في تغذية وتيرة حشد الإجماع والدعم الشعبي لصالحها بصمودها في مواجهة مليشيا الدعم السريع إلا أنها باتت تنظر لكينونة الدولة السودانية بأنها واقعة بين إتجاهين:

الإتجاه الأول: يرى أن إستكمال تحقيق نجاح الثورة يتطلب مساندة دولية وإقليمية قوية، ولكن تلك المساندة سترافقها تنازلات حقيقية يدركها المواطن السوداني جيداً، فالسودان دولة مُنهكة إقتصادياً وسياسياً، وبالتالي يرى هذا الإتجاه أن الشارع السوداني لن يقف حجر عثرة أمام إنفراجة بدأت تلوح في الأفق وبضمان “أمريكي”.

الإتجاه الثاني: إتجاة واعي لنتائج التدخلات الإقليمية والدولية في دول الربيع العربي التي سبقته، فبتالي لن يسمح بإنحراف مسار ثورته التي قام من أجلها، وهذا ما يجب أن تدركه قيادات المؤسسة العسكرية السودانية وكافة الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة في الساحة السودانية، فهذا الإتجاه لا يرى فيما يحدث اليوم إنتصاراً لثورة وطنية بمقدار ما هي فرصة لإعادة إنتاج ذات النظام الذي لم يسقط بسقوط رأسه.

حقائق يدركها الشارع السوداني 

بعد تجاذبات سياسية داخلية وخارجية كان للدورالدولي فيها الأثر الأكبر تبدو ولادة حكومة مدنية على المدى القريب إلى المتوسط صعبة للغاية في بلد كالسودان يحتاج إلى إصلاحات جذرية لا يقودها نظام المحاصصة يؤمن بالولاء قبل الكفاءة، إصلاحات تطبقها سياسات يرسمها من هو كفوءاً لها، وعشر سنوات لهكذا مهمة لن تغير الكثير مما ينتظره الشعب السوداني.

الحكومة السودانية المدنية والمنتخبة إنتخاباً حقيقياً “مستقبلاً” لن تقبل بسياسة الإنحياز لطرف دون أخر، فالسودان كدولة لها تجاربها التي علمتها بأن التضحية بطرف لأجل أخر هو الطريق الذي أفقد السودان مكانتة التي كان عليها، فبتالي لا يصح للسودان الجديد أن لا يتعلم من أخطاءه، ولو لم تكن التجارب القديمة تجدي نفعاً فستجد الحكومة المستقبلية أمامها شعباً يذكرها إن سهت ويطيح بها إن تحدته كما أطاح بثلاثة عقود عاشها السودان في دائرة اللامبالاة.

يتوقع أن تشهد الساحة السودانية قريباً الأحداث التالية 

  • دبلوماسية التوازن السياسي الموصومة بها الدبلوماسية السعودية  أرى أنها أكثر ما ستعتمد عليه واشنطن في حلحلة الملف السوداني ومحاولة الوصول من خلال الرياض إلى نقطة توافقية مشتركة “برعاية أمريكية” لوقف الحرب وفرض الإستقرار في السودان، خاصة أن الرياض تدرك أن دبلوماسية التوازن السياسي التي تتبناها هي ما يدفعها اليوم إلى ضرورة الحفاظ على هذا الإرث في الوجدان الإفريقي والذي يواجه اليوم إمتحاناً صعباً في السودان سيحدد الوجهة المستقبلية للدبلوماسية السعودية في القارة الإفريقية بأكملها.

على المستوى الدولي

  • أرى أن الدور الروسي سيتضاعف في السودان، فموسكو ترى في السودان إمتداد لرؤيتها الإستراتيجية في الوسط الإفريقي.
  • في إطار مساعي باريس لتعزيز نفوذها في سواحل الشرق الافريقي أرى أن فرنسا ستعمل على التقارب مع السودان بعد نجاحها مؤخراً في إقناع المؤسسة المالية الأفريقية بدعم خط أنابيب النفط بين أوغندا وتنزانيا في دلالة واضحة لرؤية باريس لمنطقة البحيرات الأفريقية المرتبطة “أمنياً” بدول القرن الأفريقي والسودان.
  • يرجح تنامي وتيرة العلاقات الإيرانية السودانية “بإشراف أمريكي” لضمان إستمرار حالة الإرباك الخليجي المستفيدة منها الأطراف الدولية.
  • في ظل تمدد الحرب ومحاولة مليشيا الدعم السريع السيطرة على ولاية النيل الأزرق الحدودية مع أثيوبيا وجنوب السودان يرجح أن تشهد العمليات العسكرية التي يخوضها الجيش السوداني تطور نوعي ومتقدم سيعزز فرص المؤسسة العسكرية في تحرير بعض الولايات من براثن مليشيات الدعم السريع في حال نجاح الجيش في مضاعفة وتيرة الامداد العسكري الداعم لعمليات الجيش السوداني. (دولة قطر، إيران، تركيا).

التوصيات

  • الإستعانة بالسيد “إبراهيم غندور” وزير الخارجية السوداني السابق، فلا شك أن إبراهيم غندور يحظى بقبول شعبي حتى من صفوف المعارضة السودانية وقبول إقليمي ودولي فهو صاحب كاريزما إفتقر إليها من سبقة ومن خلفة في المهمة، وإقالتة من وزارة الخارجية ولأسباب معروفة هي من ضاعفت رصيدة المهني كوجة جدير بالدبلوماسية السودانية.
  • تشكيل لجنة أمنية خاصة لوضع برنامج “سري” لتشفير التبادلات الإلكترونية بين السفارات السودانية على مستوى العالم  حفاظاً على خط سير الدبلوماسية السودانية وتجنباً من وقوع حراكها تحت المراقبة وسلاسل التأثير .
  • التنسيق والمشورة مع صلاح قوش، مهندس السياسة الأمنية السودانية، والرئيس السابق للأمن القومي السوداني، يحظى الرجل بثقة من نوع مختلف في الأوساط الإقليمية والدولية ولكن أرى أن الإستعانة بصلاح قوش سيدعم موقف المؤسسة العسكرية السودانية على الصعيد الدولي خاصة أن قوش ليس محسوباً على تنظيم الأخوان المسلمين ولو فرضنا أن ذلك غير وارد على المستوى القريب فهذا لا يعني قطعاً أن الرجل سيخرج من دائرة إعادة رسم المعادلة الأمنية والسياسية السودانية بل سيكون أصل فيها فلا يمكن التضحية بخبرة وكفاءة رجلاً كصلاح قوش .
  • يمكن للخرطوم تفعيل دورها السابق في المراكز الإقليمية الستة في إفريقيا بإعتبار أن تلك المراكز تشكل جزءاً من مبادرة الصندوق لبناء القدرات في إفريقيا، ولتعزيز ذلك الدور أرى أن تعمل الخرطوم على الإستعانة بدولة الكويت بإعتبارها أوائل الشركاء في تلك المبادرة التي تضم الأعضاء “سويسرا، المملكة المتحدة، الإتحاد الأوروبي، فرنسا، الصين، روسيا، ألمانيا، بنك التنمية الأفريقي، بنك الإستثمار الأوروبي”
  • العمل على وضع خطى مستقبلية للحصول على عضوية منظمة التجارة العالمية والتي تتخذ من سويسرا مقراً لها وذلك لرفع التبادل التجاري والإستثماري، وتعزيز إمكانات الشحن المباشر من وإلى السودان (ومن الجدير بالذكر أن عملية الإنضمام لعضوية منظمة التجارة العالمية فريدة بالنسبة لكل بلد ولكنها تستغرق في المتوسط خمسة سنوات لمعظم الدول، ومن أهم التحديات التي تواجهها الدول للحصول على تلك العضوية هي محدودية الخبرة والتجربة داخل مؤسساتها الوطنية فيما يتعلق بالمفاوضات التجارية والعامة والمتعددة الأطراف بشكل خاص، ولتسهيل ذلك يمكن للخرطوم الإستعانة بخبرة سلطنة عُمان في المفاوضات وذلك لدور مسقط في نوفمبر 2010 بدعم عضوية سيشل في المنظمة).
  • لتطوير القطاع الصحي السوداني وسياسات الرعاية الصحية مستقبلاً أرى أن تعمل الخرطوم على التنسيق مع دولة قطر لشراكة الأخيرة في حملة “التمريض الأن” العالمية برعاية المجلس الدولي للممرضيين في جنيف خاصة أن هناك عدد من الدول الإفريقية إستفادت من تلك المبادرة القطرية “نيجيريا،أوغندا، مالاوي، السيراليون، والتي إنطلقت في يوليو 2019 في مؤتمر القمة العالمي للإبتكار في الرعاية الصحية WISH الذي أعلن أن هناك تقديرات تؤكد أنه سيكون عجز في الكوادر الطبية المساعدة على مستوى العالم بحلول عام 2030.

يدرك السودان بأن هناك محاور إقليمية تشكلت في الساحة السودانية بعد 15 إبريل 2023 وهي قطعاً محاور متضادة في توجهاتها، إلا أن القوى الدولية الفاعلة في المشهد السوداني لن تتصادم بشكل فعلي مع تلك المحاور، ولكنها ستعمل على التنسيق معها وفقاً لما تراه تلك القوى متوافقاً مع رؤيتها المستقبلية، وبالتالي أرى أن تعمل الخرطوم مستقبلاً على إيجاد نقطة مشتركة مع القوى الدولية التي تدير تلك المحاور تحقيقاً لمصالحها الخاصة مع كافة المحاور حتى تلك التي تختلف معها تجنباً من قوة إرتداد الموجه الشعبية والتي بلا شك ستعصف بالكثير إذا عادت وسيعود الجميع لمربع الصفر.

د.أمينة العريمي 

باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي 

د.أمينة العريمي

أمينة العربمي باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي
زر الذهاب إلى الأعلى