الصراع الصومالي – الإثيوبي  من منظور تاريخي (4):  الإمارات الإسلامية في شرق أفريقيا

يساعدنا التسلسل الزمني للأحداث العدائية بين الصومال والحبشة على تتبع التحولات والتغيرات المتعاقبة التى حصلت في العلاقات بين الدولتين بدءا من مراحلها الأولى وإنتهاء بيومنا هذا، وكذلك من الأهمية بمكان أن نفهم ونستوعب الخطوط العريضة التى حكمت الصراع الصومالي الإثيوبي، والعوامل المؤثرة، خاصة في السياسية الحبشية التى تدار بشكل مباشرة وغير مباشرة من الكنيسة القبطية وتحركها الأطماع التوسعية والهيمنة، تجاه الصومال ، ودور الإسلام في تصدي هذه الأطماع وإفشال المخطط الإثيوبي.

من أهم ركائز القومية الإثيوبية الكبيرة(Panethiopia)، مبنية على فكرة الدولة الإثيوبية التي تستمد شرعيتها من إدعاء  الاستمرارية الزمنية العميقة للتجربة التاريخية للإمبراطورية الإثيوبية التي ترجع أصولها إلى العصور القديمة  وإلى زمن مملكة أكسوم.  وعلى أساس هذا النموذج حول قراءة التاريخ من حيث الاستمرارية، تم أيضا إضفاء الشرعية على طموح إثيوبيا للمطالبة بدور مهيمن في المنطقة وضم الأراضي الإريترية وأجزاء كبيرة من الأراضي الصومالية إلى تطلعاتها الوطنية.

 العودة للتاريخ أمر في غاية الأهمية لفهم أزمات الحاضر واستكشاف المستقبل. وأقصد هنا في هذا الصدد استحضار الجوانب الصداماتية العسكرية والدينية من التاريخ في قرن أفريقيا لتعيننا على إدراك أصل إشكاليات الحاضر ؛ لأنها امتداد لها ومرتبطة بها ارتباطا وجدانيا وثقافيا واجتماعيا. فإن الوعي بالماضي والنظرة اليه يحدد موقفنا من الحاضر وترسم لنا ملامح المستقبل ولذلك لابد أن أتوقف عنده كثيرا.

ساهمت الاتصالات المستمرة بين شبه الجزيرة العربية وساحل القرن الأفريقي عبر البحر الأحمر في انتشار الدين الإسلامي بين سكان،  وكانت سلطنة عدل، معظمها أراضي ما يعرف اليوم بأرض الصومال  وأراضي دانكاليا، وكانت المجموعات العرقية ذات الأصول العربية والهرارية والدنكالية والصومالية من سكانها.  وكانت القاعدة الأولى لسلطنة عدل زيلع، ولكن بعد ذلك تم نقل العاصمة إلى هرار حتى احتلال إثيوبيا في أواخر القرن التاسع عشر.

لقد ارتبط الإسلام منذ بدايته بهذا الجزء من أفريقيا ، حيث دخل من شبه الجزيرة العربية وامتد إلى أن أصبح الدين الوحيد في بلاد البربر خاصة بين الصوماليين.  في عام 614 م، فرت مجموعة من المسلمين جراء الاضطهاد التي مارسها كفار قريش ضدهم وهاجرت إلى الحبشة فيما بات يعرف بالهجرة الأولى  وشقوا طريقهم عبر خليج عدن إلى أن وصلوا مملكة أكسوم على ضيافة الملك العادل النجاشي عشامة أو اصحمة بن أبجر ملك أكسوم المسيحي. وفي عام 616 حدثت هجرة ثانية بقيادة جعفر بن أبي طالب ثم في الواقع استمرت الهجرة إلى القرن الأفريقي بعد انتصار الإسلام والمسلمين على كفار قريش وجزيرة العرب بصفة عامة، إما للتجارة أو الهرب من الملاحقات السياسية.

وبما أننا لا نستطيع أن نذكر بالتفصيل وبدقة كيف ومتى قامت أول إمارة إسلامية في بلاد البربر أو ما يعرف اليوم بالصومال، ولكن من المؤكد أنها كانت سلمية وتمت بغير حرب، وتوسعت على حساب جارتها الحبشية حتى وصلت إلى داخل بلاد الحبشة. وأقاموا ممالك إسلامية قوية.

كما يذكر المقريزي، فإن أول دولة نشأت في بلاد البربر تمت على يد رهط من قريش نزلت مع التجار المسلمين في سواحل الصومال (البربر سابقا) وسكنو في منطقة  زيلع في ناحية تسمى جبرت، وأصبحت “ايفات ” قاعدتها وأخذت تقوي ويمتد نفوذها ويتسع، حتى إذا دخل القرن الثامن الهجري أصبح للمسلمين سبع ممالك زاهرة عامرة وسميت الطراز الإسلامي؛ لأنها كانت كالطراز علي ساحل  الصومال  وفى عصرها شهدت المنطقة أزهى عصور الازدهار الإسلامية في قرن أفريقيا.

وهذه المماليك السبعة هي:

  • ايفات
  • دوارو
  • اريبينى
  • هدية
  • شرخا
  • بالى
  • دارة

هذه البلاد كانت تنعم كلها بالرخاء ، وعامرة بالمساجد و الجوامع تقام فيها الجمع والجامعة وعلى جانب من القوة وكلها متجاورة ما عدا دارة فإنها داخلة في نواحي أمهرة التي كانت وقتها قاعدة مملكة الحبشة النصرانية.

كما ذكره المؤرخون مثل العمري والقلنشدي، أن أوسع هذه المماليك هي ايفات أو اوفات ويقال عنها جبرت. وهي الأراضي الممتدة من بلاد زيلع (ما يسمى اليوم بصوماليلاند شمال غرب الصومال) مرورا بهرر وجيبوتي واريتريا وصولا إلى حدود السودان. وهي أقرب من أخواتها إلى مصر وإلى سواحل تهامة اليمن، وتمتد في الداخل إلى هضبة الحبشة في ناحية شوا.   وذكر المؤرخون  أن مملكة دواره أيضا تقع ضمن نطاق جغرافية ايفات ولكنها كانت مستقلة وصغيرة وتقع شرقي هرر وكانت قاعدتها “دكر” في الأراضي الصومالية.

 كانت مملكة أكسوم/الحبشة المسيحية التي يبلغ عمرها ألف عام والتي كان سكانها أساسًا من قومية تيغرينا وأمهرة.  لم يكن لدى ملك الأمهرة (من سلالة سليمان) مقر إقامة/عاصمة ثابتة، بل غالبًا ما كانوا يتنقلون داخل الجزء الأوسط من المملكة اعتمادًا على المواسم أو الحملات العسكرية.  مع تراجع مكانة أكسوم وتوحيد سلالة الأمهرة على يد يكونو أملاك في ١٢٧٠ نقل عاصمة الحبشة إلى مرعدي في إقليم امهرة ولُقب الملك بالحطي.واصبحت الأمهرية اللغة الرسمية بدلا من الجعزية.

وفي عهد  يكونو أملاك الذي يعد مؤسس الأسرة السليمانية الثانية بدأ يشن الغارات علي المسلمين في الجنوب وجنوب الشرقي وكانت ذلك بداية الصراع الحبشي-الإسلامي الممتد  نحو ثلاثة قرون.

ولما تولى إسحاق بن داود على الحبشة ١٤٠٩م/٨١٢ هـ أدخل تعديلات في هيكل إدارته المالية والعسكرية بفضل خبرات المصريين العسكرية والإدارية الذين لجأوا إليه هاربين من نظام المماليك في مصر، و بفضلهم تغيرت الحالة العسكرية والمالية في المملكة الحبشة. يقول المقريزي: “فلما تولى إسحاق بن داود على الحبشة قوي أمره بوفود قوم الجراكسة إلى بلاده وأنشأوا له مصنعة للسلاح بعد ما كانوا يحاربون الحراب والنشاب، وكذلك انتظمت مالية دولته بوجود قبطي من مصر ولاه أمر أموال المملكة فأحسن ضبطها وأنماها. فعند ذلك طغى واتفق على رجال دولته على انتزع ممالك المسلمين من أيديهم واجلائهم عن البلاد وإيذائهم، ثم كتب إلى ملوك الفرنجة يحثهم على ملاقاته لازالة المسلمين” انتهى .

الإمام أحمد جري الغازي

بلغت الغارات الإثيوبية على الإمارات الصومالية أشدها في القرن العاشر الهجري/السادس عشر الميلادي في زمن لبنا دغل(داؤود الثاني) وضعف المسلمون وتراجعت قوة دولتهم إلى أن كادوا يزولون من الوجود. وقد نقل داؤود الثاني  الحرب في عقر دارهم وقاد حملة تلوى الأخرى للسيطرة على جميع بلاد المسلمين والوصول إلى البحر، وكان مسرفا في عدوانيته وحشيته ضد المسلمين، ودمر مدنهم ومساجدهم وسبى نساءهم وأطفالهم وأجبروهم على اعتناق المسيحية، وكانت هذه الممارسات الوحشية تتم تحت رعاية الكنيسة وإشراف البطارقة ومباركتهم. لكن الله بعثهم رجل مقدام اسمه أحمد جري الغازي، وحَّد صفوف المسلمين وجمعهم تحت راية واحدة، وقضى على المفسدين وقطاع الطرق، وتلقوا الدعم من الأتراك الذين سيطروا على مصر والحجاز، ومدخل البحر الأحمر من جهة الشمال عبر نائبها في اليمن في حين كانت الحبشة تتلقى الدعم العسكرية من الأوروبيين خاصة البرتغاليين الذين يسيطرون على جميع منافذ المحيط الهندي وجزء كبير من البحر الأحمر ، تشمل الأسلحة النارية الحديثة من المدافع والبنادق. وقد إستطاع المسلمون بقيادة الإمام أحمد غري غزو الحبشة في عقر دارها في أمهرة وتيغري واخراب كنائسها ومدنها وطاردوا ملكها في …. حتى مات ملكها داؤود الثالث كمدا، وأصبحت الحبشة كلها بيد المسلمين. وخلف عرش الحبشة بعد موت داؤود الثاني إبنه كلوديوس، وجدّد طلبه الدعم من الفرنجة عبر إرساله مبعوثين الى كل من البرتغاليين والفاتكان. وتسبب تدخل البرتغاليين المباشر باربعمائة جندي ومدافع بقيادة كريستوفر ديغاما شقيق فاسكو ديغاما الذي وقع اسيرا في أيدي المسلمين ولقي حتفه مع عديد من رجاله.

في ١٥٤٢ استطاع البرتغاليين بقلب المعادلة وهزيمة المسلمين، وقتل الإمام وتقهقر المسلمين وأخرجوا من جميع الأراضي الحبشة التي استولوا عليها في أيام الإمام أحمد غري. ومع ذلك ظل المسلمون يسيطرون على جميع مواني البحر الأحمر واغلقوا على وجه البرتغاليين. وفي هذه الأثناء تقدم الأتراك من الشمال وسيطروا على ميناء مصوع على حساب البرتغاليين.

 يقول Dirar Uoldelul: ” مثلت الأحداث التي شهدت منطقة قرن أفريقيا في القرن السادس عشر وصعود الشخصية الكاريزمية للإمام أحمد بن إبراهيم الغازي (1506-1543) ) ، الملقب بـ Grañ ( والذي يعني في اللغة الأمهرية “أعسر”) نقطة التحول أساسية في عملية تحديد الدور السياسي للديانتين التوحيديتين العظيمتين في المنطقة . وفي عام 1529، وانطلاقًا من سلطنة عدل، وهي دولة خاضعة للبلاط الإمبراطوري الإثيوبي ذات أغلبية صومالية، تمكن أحمد بن إبراهيم من إطلاق مشروع سياسي وحدوي وبعيد المدى يهدف إلى إقامة ثيوقراطية إسلامية في المنطقة بأكملها.  بفضل فعالية وانضباط غير عاديين، وضع الجهاد الذي أطلقه أحمد بن إبراهيم مراكز البلاط الإمبراطوري المسيحي في أزمة خطيرة وأدى إلى تحولات جماعية لسكان الريف في الهضبة إلى الإسلام. وكان جهاد أحمد بن إبراهيم أيضًا أساس التدخل البرتغالي في المنطقة، والذي تجسد عام 1541 في إنزال كتيبة مكونة من ثلاثمائة جندي بقيادة الشاب كريستوفاو دا جاما، شقيق فاسكو الشهير، الذي بحكم تفوقه العسكرية لامتلاكه أسلحة نارية تمكن من حسم المعركة لصالح الحكام الإثيوبيين.  كان الوجود البرتغالي في القرن الأفريقي بمثابة تكثيف وتوطيد للاتصالات السياسية والثقافية مع الغرب الكاثوليكي، كما أدى إلى تقارب مؤقت بين الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية والكاثوليكية، وذلك بفضل مجموعة من المبشرين اليسوعيين”.

و لم تدم فرحة الحبشة في هزيمة المسلمين طويلا ولم يتمكوا من تذوق حلاوة النصر ، ودب الخلاف والصراع بينهم، ودخلت إمبراطوريتهم في انحدار سياسي وخلافات مذهبية عميقة ناجمة عن عمليات التبشير التى يقوم بها المبشرون البرتغاليون الكاثوليك، وكذلك لم تتوقف غارات المسلمين المتكررة الذين يريدون الثأر والانتقام لإمامهم وبالفعل تمكنوا من خلال بعض غزواتهم في قتل ملك الحبشة كلوديوس الذى قتل على يديه الإمام أحمد غري. ومما زاد مشاكل الحبشة تعقيدا وساهم في تضعيفهم الى جانب الاضطرابات الداخلية ظهور لاعب خطير آخر على المسرح الصراع من الجنوب وهو القبائل غالا الهمج.

وفي ١٥٦٣ زحفت قبائل غالا من الجنوب واحتلوا عددة مقاطعات من الحبشة. وفي هذه الأثناء أدت الخلافات والحروب الداخلية إلى كسر وحدة الإمبراطورية الحبشة واضعاف سلطانها وفي عهد يوحانيس الرابع ١٧٦٣-١٦٥٣ أصبحت العديد من المقاطعات مستقلة. وانحسرت سلطة الملك ونفوذه في المقاطعة التي يتواجد فيها.وبدء ينتقل لقب الملك إلى رؤساء المقاطعات حسب قوة رئيس المقاطعة، وقامت دول متعددة تتقاتل فيما بينها، وسمي في هذه الفترة  بعهد مساف زمان.

يتبع..

خالد إبراهيم

باحث في تاريخ الصومال
زر الذهاب إلى الأعلى