العنصرية أزمة عالمية عابرة للحدود والقارات ، لا يختص بها شعب دون أخرى،بل الجميع يشتكي منها ، ولكن على مستويات متفاوتة ، وأسوؤها التي تصل إلى حد القتل والحرق والإبادة الجماعية .
هناك عنصرية دينية ، وعرقية ، ومذهبية ، ولغوية ، وطبقية ،وجهوية ، وأخرى تتعلق بلون البشرة وصورة المرء والمهنة والصنعة وغيرها كثير .
كانت جزيرة العرب تعيش في أحلك وأسوء تاريخها في مجال العنصرية والاعتزاز بالعرق قبل شروق شمس الإسلام على أرضها ، فحمل نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم على عاتقه بتربية الناس على العبودية الكاملة لله تعالى والتقرير بأن البشر لا يتفاضلون إلا بالإيمان والتقوى تطبيقا لا تنظيرا ، فعامل الناس بسبب بلائهم واستجابتهم وسبقهم لرسالة الإسلام ، لا بسبب لونهم وعرقهم ، فقدّم من قدم الإسلام ولو كان وضيعا في ميزان وقوانين المجتمع الجاهلي ، وأخرّ من أبطأ به عمله ولو كان معظما مبجلا في تلك البيئة ، فأخرج جيلا مثاليا يعانق الجوزاء بإيمانه ويعيش مع الملكوت الأعلى بأخلاقه فعامل البشر بخطاب الوحي الإلهي بأن العبرة الإيمان والعمل الصالح لا بالألقاب والصولجان والمال والحسب والنسب ، فتنفس الصعداء ممن أهينوا وظُلموا بسبب لون بشرتهم أو مهنتهم أو عرقهم ، فعاشوا في وئام وانسجام مع غيرهم ، كما أن صفوف الصلاة لا تفرقهم فكذلك كانت المعاملة في خارج و محيط المسجد سواء بسواء .
لم يسلك الإسلام في تغيير نمط الحياة المتعلقة بالعنصرية وأخواتها باصدار قرارات ومراسيم تُجرم من يمارسها بأي وجه من والوجوه بل سلك طريقا آخر في تغيير ثقافة المجتمع تجاه هذه المعضلة ، فشحن الإيمان في قلوبهم ، ورغبهم بما عند المولى وزهدهم عن الحياة الفانية ، فامتثلوا الأوامر والنواهي من دون حاجة إلى سلطة تراقبهم أو تحاسبهم ، فأصبح من كان مهانا منبوذا مثل بلال بن رباح سيدا مكرما معززا ( أبو بكر سيِّدُنا وأعتق سيِّدَنا ).
وقد وجدت بعض الحوادث الفردية النادرة ولكن سرعان ما عالجها الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم بصورة حاسمة لا محاباة ولا تردد فيها ، ففي صحيح البخاري عن المعرور بن سويد قال لقيت أبا ذر بالربذة وعليه حُلة وعلى غلامه حُلَة فسألته عن ذلك ، فقال إني سابَبتُ رجلا فعيرته بأمه، فقال لي النبي (ص) يا أبا ذر أعيرته بأمه ، إنك امرؤ فيك جاهلية ، إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم ) .
وقد روى الإمام القرطبي في تفسيره في سبب نزول قول الله تعالى ﴿ يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقناكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثى وَجَعَلناكُم شُعوبًا وَقَبائِلَ لِتَعارَفوا إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللَّهِ أَتقاكُم إِنَّ اللَّهَ عَليمٌ خَبيرٌ ﴾الحجرات ١٣، قال ابن عباس : لما كان يوم فتح مكة أمر النبي ( ص) بلالا حتى علا على ظهر الكعبة فأذن، فقال عتاب بن أسيد : الحمد لله الذي قبض أبي حتى لا يرى هذا اليوم . قال الحارث بن هشام : ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا . وقال سهيل بن عمرو : إن يرد الله شيئا يغيره . وقال أبو سفيان : إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبر به رب السماء ، فأتى جبريل النبي ( ص) وأخبره بما قالوا ، فدعاهم وسألهم عما قالوا فأقروا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
إذا فالأمر جدّ خطير ولذلك تعامل الوحي بما يليق به ، لأن الرسالة جاءت لتذكير الناس بأصلهم الحقيقي ولتقرير أن التفاضل ينحصر فقط بالإيمان دون سواه .
وفي الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله (ص) خطب بمكة فقال : ( يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وتعاظمها بآبائها ، فالناس رجلان: رجل بر تقي كريم على الله ، وفاجر شقي هين على الله . والناس بنو آدم وخلق الله آدم من تراب قال الله تعالى : يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير .
الصوماليون مسلمون من أهل السنة والجماعة على مذهب الإمام المطلبي محمد بن إدريس الشافعي القرشي ، وهناك خلاف عن أصولهم ، فمن قائل بأنهم من أصول عربية أو إفريقية أو أجناس مختلفة ، فهما يكن الأمر فالشيء الوحيد الذي يشتركون فيه ويتميزون به عن غيرهم هو لون بشرتهم السمراء وسحنة وجوههم المتشابهة وتداخل لهجاتهم المحلية وانفرادهم في مناطق سكناهم حيث لا تختلط بهم أمم وأجناس أخري كما هو الحال في الدول المجاورة لهم ، ومع ذلك تنتشر بينهم العنصرية الصامتة بشتى أشكالها وأنواعها بصورة يعجز اللسان عن توصيها وتكييفها مع وجود من يغديها ويتعاهد عليها بالسقي بنار القَبلية والمحسوبية والفساد.
العنصرية في المجتمع الصومالي متعددة الوجوه والأطوار ومتداخلة الصفات ، غير مسموحة بروايتها وحكايتها ، محاطة بسياج من الكتمان تارة ، وبالإنكار تارات أخرى ، وهي تمارس سرا وجهرا حسب المعطيات والمناسبات مع التظاهر بإبراز قبحها وشناعتها .
هناك عنصرية سياسية واجتماعية وإدارية ودينية وحزبية وحركية وهلمّ جر .
العنصرية السياسية : بما أن الصومال لا يوجد فيه نظام ملكي إلا أنه العملية السياسية قائمة على أساس قبلي عنصري ، فمنذ الاستقلال قبل ستين عاما وإلى اليوم المناصب العليا في الحكومة مدنية كانت أو عسكرية محصورة في أُسر معينة ، ولا يُشترط لمن يتقلد في هذه المناصب أن يحمل شهادات علمية أو خبرة وظيفية وإدارية أو كفاءة وإبداع معتبرة بل يكفيه إن ينتسب إلى فئة معينة من الناس ، وإذا غربلت في سجلات الحكومات السابقة والحالية ستكتشف بأن قلة قليلة من القبائل هيمنت على سدة القرار ، وأن الغالبية العظمي من الشعب الصومالي محروم من نيل حقوقه القانونية .
وأما العنصرية الاجتماعية فحدث ولا حرج ، كأنها طبق الأصل أو أشد سوأة وصورة من ممارسات الجاهلية الأولى ، فبسببها تُحرق وتُقتل وتظلم أبرياء لم يرتكبوا جريمة بل انتمائهم إلى أسر وقبائل يُصنف بأنهم أقل درجة ومكانة من غيرهم ، وهناك حكايات مروعة لا تتسع الصفحات لتسطيرها هنا .
وهناك عنصرية في مجال التعليم بمراحله المتنوعة من الابتدائية إلى الجامعية ، فالتوظيف يعتمد على العنصرية لا الكفاءة ولا الشهادة ولا الأهلية .
وأما العنصرية في مجال الدعوة والحركات الإسلامية الصومالية حديث ذو شجون ، وقد يصاب المرأ بالحيرة والدوران عندما يكتشف أن الساحة الدعوية الصومالية يعشعش فيها أنواع من العنصرية المقيتة ، وأن التدين المغشوش حولها إلى بؤرة يتكاثر فيها دود العنصرية بدون خجل ولا تأنيب ضمير ، فكأن الدعوة والعلم لا يجوز أن يزاولها إلا من ينتمي إلا مناطق معلومة ، ولا يتقلد رئاسة الحركات ولا يكون في مجالسها العليا إلا من يحمل جينات معينة.
وأقرب مثال لتقريب جوانب العنصرية الموجودة في الساحة الدعوية الصومالية يتمثل القصة التى أوردها الإمام الفخر الرازي في تفسيره عند الآية ﴿ يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقناكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثى وَجَعَلناكُم شُعوبًا وَقَبائِلَ لِتَعارَفوا إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللَّهِ أَتقاكُم إِنَّ اللَّهَ عَليمٌ خَبيرٌ ﴾ الحجرات ١٣ ، ، وفحواها تقول : أن رجلا من أهل خراسان من أهل البشرة السمراء موصوف بالعلم والتقوى كان معززا مكرمة في بلدته ، والناس إذا رأوه أقبلوا عليه يسألونه ويسلمونه ، فرآه رجل من أهل البيت – الأشراف – وهو ثمل قد غلب عليه السُكر ، وكان يحاول أن يقترب من الشيخ العالم ، ولكن محبي الشيخ يحاولون إبعاده وطرده ، فغلبهم وتعلق على الشيخ قائلا : يا أسود الحوافر والشوافر، يا كافر ابن كافر، أنا ابن رسول الله، أُذَلّ وتُجَلّ ! وأُذَمّ وتُكْرَم ! وأُهَان وتُعَان ! ، فَهَمّ الناس بضربه ، فقال الشيخ: لا . هذا محتمل منه لجده علي رضي الله عنه ، ولكن يا أيها الشريف بيَّضتُ باطني وسوَّدتَ باطنك ، فيرى الناس بياض قلبي فوق سواد وجهي، وأخذتُ أنا سيرة أبيك وأخذتَ أنت سيرة أبي ، فرآني الخلق في صورة أبيك الصالح ، ورأوك في صورة أبي الكافر ، فظنوني ابن أبيك ، وظنوك ابن أبي ، فعملوا معك ما يُعمل مع أبي ، وعملوا معي ما يُعمل مع أبيك ! . وهذا القصة مع شناعتها وقبح منظرها لا تساوي شيئا إذا ما قورنت بالعنصرية المتغلغلة في الساحة الدعوية الصومالية، ولكنها غير مسموحة في روايتها ، فكان الواجب على الدعاة والعلماء أن يكونوا أكثر الناس بعدا ونزاهة عن العنصرية والقبلية ، ولكن المؤسف أن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن وأن كثيرا من الدعاة إلا من رحم الله تعالى لم يستطيعوا التفريق بين انتساب القبيلة وبين العنصرية القبلية ، فوقعوا في شراك ما كانوا يحذرون الناس منه في خطابهم الدعوي ، لأن تأثير القبيلة يأتي فوق كل شيء.
كما قلت في أول المقال أن العنصرية في المجتمع الصومالي حديث غير متناهي وليس نهاية ، ولا يمكن إصلاحه إلا بإيمانه يباشر القلوب ويقود الأقوال والأعمال والأخلاق ، وإلا فعلى الأمر جدّ خطير ، والمأساة في دوام واستمرار أصلح الله تعالى القلوب والأعمال .
د.عبدالباسط شيخ إبراهيم
١٥الأربعاء /٧/ ٢٠٢٠م