أن طائرة إسرائيلية مسيرة “درون” انتهكت المجال الجوي للبلاد، وأسقطت مواد حارقة أشعلت النيران في منطقة أحراج على الحدود. أن “المسيرة الإسرائيلية خرقت الأجواء اللبنانية من فوق مزرعة بسطرة، وقامت بإلقاء مواد حارقة على أحراج السنديان في المنطقة، مما أدى إلى نشوب حريق”. أن الأحداث التي شهدتها الأيام القليلة الماضية بمثابة بداية العدّ العكسي لحرب إقليمية مؤجلة طرفاها الأساسيان إيران وإسرائيل ومسرحها العراق وسوريا ولبنان.
واضح أن لإسرائيل أهدافا أخرى متعلقة بخلط الأوراق الإقليمية والدولية حيال الملف الإيراني. يؤكد ذلك أن الولايات المتحدة لم تدعم القصف الإسرائيلي في العراق، بل ذهبت باتجاهٍ آخر، وإن لم يكن على المستوى الرسمي، فقد أعلن مسؤول أميركي، رفض الكشف عن هويته، لوكالة “فرانس برس” بعد الهجوم الإسرائيلي،
أن لدى الولايات المتحدة “أسبابا تدفعها إلى الاعتقاد” أن إسرائيل هي التي شنت الغارة، في وقتٍ أعلن مسؤولون آخرون في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أن إسرائيل تهدد المصالح الأميركية في العراق من خلال هذه الهجمات. وتوحي طبيعة هذه التصريحات التي سبقت كشف صحيفة نيويورك تايمز تفاصيل الغارة
“الهدف الإسرائيلي هو إرباك الساحات العربية التي توجد فيها إيران، ودفع الأمور نحو حافة الهاوية” الإسرائيلية بأن الإدارة الأميركية مستاءة من هذا الهجوم، فالساحة العراقية تختلف تماما عن الساحة السورية، ومن شأن الضربات الإسرائيلية في العراق أن تزيد من تعقيد الحضور الأميركي هناك، وربما تدفع المليشيات المحسوبة على إيران إلى شن عمليات ضد أهداف أميركية. وهذه النقطة هي ما تعمل إسرائيل على تحقيقه، أي استفزاز المليشيات العراقية ـ الإيرانية للقيام بعمليات عسكرية ضد أهداف أميركية، أو تعزيز عمليات نقل الأسلحة عبر الأراضي السورية. وفي الحالتين، ستضطر واشنطن إلى التدخل العسكري، ما يزيد من تفاقم الأوضاع.
وما يؤكد ذلك إلى حد كبير أن الولايات المتحدة منعت إسرائيل العام الماضي من الاستمرار في ضرباتها الجوية للمليشيات الإيرانية داخل الأراضي السورية عند الحدود العراقية، فكيف الحال إن انتقلت هذه الهجمات إلى العراق. وفي لبنان، وعلى الرغم من عدم رغبة إسرائيل وحزب الله في الانحدار إلى مواجهة عسكرية مباشرة، إلا أن إسرائيل تحاول استفزاز الحزب للرد العسكري، ليس من أجل توجيه ضربات عسكرية لمنظومة الصواريخ التي يمتلكها الحزب، وإنما الأهم، لإرباك الساحة اللبنانية، ما يدفع واشنطن إلى زيادة الضغوط على إيران. ويؤكد ذلك أن الهجوم الذي نفذه حزب الله باستهدافه آلية إسرائيلية عند طريق ثكنة أفيفيم لم ينجم عنه رد إسرائيلي كبير.
الهدف الإسرائيلي هو إرباك الساحات العربية التي توجد فيها إيران، ودفع الأمور نحو حافة الهاوية، من أجل قطع الطريق على أي تغيير في الموقف الأميركي تجاه إيران، بعدما ظهرت بوادر أميركية تشير إلى عدم رغبة واشنطن في تأجيج الأمور مع طهران. ولكن الاكتفاء بهذا التفسير للهجمات الإسرائيلية غير كافٍ، ويحجب إمكانية فهم المشهد بالكامل، ذلك أن التصعيد الإسرائيلي لا يتعارض بالأساس مع المبدأ الذي اعتمدته حكومة نتنياهو منذ سنوات، “المعركة بين الحروب”، وهو المبدأ الذي جعل إسرائيل تضرب ما تعتبره تهديداً إيرانياً، وكانت الهجمات الإسرائيلية ضد قوافل نقل السلاح في البوكمال ودير الزور دليلا على ذلك.
يتناسب توسيع مساحة القصف الإسرائيلي تماما مع الاستراتيجية الإسرائيلية ـ الأميركية حيال إيران، ففي بداية الأزمة السورية، اقتصرت الهجمات الإسرائيلية على عمليات نقل الأسلحة الإيرانية إلى حزب الله، أو نقل الأسلحة إلى مناطق الجنوب السوري، ومع مطلع 2018، بدأت إسرائيل توسع دائرة قصفها، لتشمل أي وجود إيراني خطير في سورية، وكان هذا سبب الهجمات العديدة ضد مواقع إيرانية مهمة.
ويسمح توسيع إسرائيل دائرة هجماتها لها بتعزيز مبدأ “المعركة بين الحروب” عبر الاستمرار في توجيه ضربات استباقية، والحيلولة دون اندلاع مواجهة مباشرة مع إيران وأطرافها، كما أن توسيع دائرة الهجمات يضع حكومتَي بغداد وبيروت أمام مسؤوليتهما للضغط على إيران. إن هناك ربطًا بين استهداف إسرائيل لأهداف إيرانية في بغداد ومدن عراقية أخرى ودمشق وبيروت، في ضوء حاجة بنيامين نتنياهو إلى التصعيد قبل نحو ثلاثة أسابيع من انتخابات إسرائيلية تكتسي أهمية خاصة بالنسبة إلى مستقبله السياسي. أن إيران تلتقي مع رغبة إسرائيل في التصعيد بما يزيد من خطر نشوب نزاع ذي طابع إقليمي.
كانت الأضرار الناجمة عن قصف الطيران والبحرية الإسرائيليين، فضلاً عن محاولات الاقتحام البري، كبيرة جداً. وهي، وإن كانت قد تسببت بخسائر اقتصادية فادحة للبلد بأسره، فهي متباينة للغاية بحسب المناطق والتوزع الاجتماعي، وهي قد أثرت بشكل خاص على السكان الشيعة في الجنوب وفي الضاحية الجنوبية لبيروت.
ومن جديد، توجب على الدولة، التي كانت قد بدأت بالتوجه نحو أولويات جديدة، أن تعالج الأزمة وتؤمن المأوى لمن لا مأوى لهم، وأن تعمل على إعادة تأهيل المرافق الحيوية، ووضع برامج جديدة للإعمار. واستفاد لبنان في مهمته الجديدة مرة أخرى من تعبئة الجهود، ومن تضامن دولي واسع النطاق، سواء عن طريق التدخل العسكري المتزايد للأمم المتحدة أو عبر المساعدات المالية الكبيرة التي تلقاها.
المشكلة هي أن حزب الله ليس ديكتاتوريا, بل حركة مقاومة وتضامن. لقد سبب الهجوم الإسرائيلي في تهجير مليون شخص. إذ هاجر الربع الأول من هؤلاء إلى الخارج, في الوقت الذي وجد فيه الربع الآخر مأوى له في سورية. أما نصف المليون المتبقي فلقد أخد رحاله إلى شمال لبنان. يذكر أن العدد الهائل هذا من اللاجئين لم يتلقى أي إسعاف من الدولة. على العكس من ذلك, لم يتوانى حزب الله والتيار الوطني الحر بقيادة الجنرال المسيحي ميشيل عون في أخد المهجرين على عاتقهما. بل وأن البعض من اللاجئين اللبنانيين تم استقبالهم وإيواؤهم من طرف اللاجئين الفلسطينيين الذين يعيشون في البؤس داخل المخيمات الفقيرة منذ سنوات 60. وبعيدا عن تحميل حزب الله مسؤولية المصيبة التي حلت بهم, ثار اللاجؤون اللبنانيون ضد الجيش الإسرائيلي الذي قصفهم, والولايات المتحدة التي وفرت له الأسلحة, وحكومة السنيورة المتعاونة معه.
إن أكثر الأمور إثارة هو أن اللبنانيين الذين بقوا في الجنوب لمدة 34 يوما, تحت وابل من القذائف تفوق حدتها خمس مرات قوة هيروشيما, لم يصابوا بأي نوع من الإحباط. مكابدتهم هذه يرجع فيها الفضل في المقام الأول إلى تجربتهم الماضية مع الحرب، وكذلك بشكل كبير إلى تكوينهم وتأطيرهم، ثم إيمانهم. فبعيدا كل البعد عن فقدان الأمل، شمروا عن سواعدهم وأعدوا لحرب طويلة، حتى أنهم عجبوا من السرعة التي هزموا بها عدوهم الغاشم.
عرضيا، قام الجيش الإسرائيلي، وابتداء من اليوم الثاني على هجومه، بقصف استوديوهات قناة المنار والمقر الوطني لحزب الله المتواجدين في أحد الأحياء الشعبية ببيروت. القصف ذلك لم يسبب إلا في انقطاع بث برامج المنار لما لا يزيد عن دقيقتين، بدون أن يكون له أثر يذكر على تنظيم الحزب. ولقد ظن قادة أركان حرب الدولة العبرية بأن مسؤولي القناة والحزب قد لاذوا بالفرار والتجوا إلى غرف محصنة (تحت الأرض) تحت الأنقاض.
هكذا تابع الجيش الإسرائيلي قصفه لأربعة أيام أخرى بغية تدمير المنشآت التحأرضية, قبل أن يدرك بأن المنشآت تلك ليس لها من وجود إلا في الخيال المبدع لصحافيي “فوكس نيوز”. غير أن القصف الإسرائيلي خرب جنوب العاصمة بأكمله، الذي أصبح كومة من الأنقاض. الضراوة تلك في الخطأ استفاد منها حزب الله الذي ظهر مظهر الخصم الذي لا يقهر أمام واحد من الجيوش الأحسن جهازا في العالم.