أثر غياب أحد الوالدين على تربية الأطفال وتحصيلهم الدّراسي
تعدّ الأسرة المكان الذي يتلقى فيه الطفل البذرة الأولى في تكوينه ونموه النفسي والفكري والعقلي والاجتماعي، و تتكوّن الأسرة عادة من أب وأم وأولاد، كلّ له دوره في تنمية الأسرة وتربية الأطفال. وتقع المسؤولية الكبرى تجاه الأطفال على عاتق الوالدين الأب والأم على حدّ سواء، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “كلّ مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه” وفي هذا إشارة إلى أن الوالدين هما الّذين يكوّنان الطفل ويزوّدانه بما يحتاج إليه من خبرات ومهارات لمواجهة الحياة.
وبطبيعة الحال فإن هذه المسؤولية التربوية الملقاة على عاتق الوالدين موزعة الأدوار والصلاحيات بينهما ليسهل عليهما تربية أولادهما تربية متكاملة. ومتى غاب أحد الوالدين خلّف فراغا في دوره، مما يؤثّر سلبا على تربية الأطفال، مع وجود تفاوت في طبيعة الأثر الذي يتركه هذا الغياب على الطفل بالنظر إلى نوع الغياب وأسبابه كالآتي:
يكون غياب أحد الوالدين على الأوجه الآتية:
الغياب بالموت: وهو غياب أحد الوالدين بسبب الوفاة سواء بالحروب أو بالأمراض أو بالوفاة الطبيعية.
إنّ وفاة أحد الوالدين لا شكّ تحدث صدمة كبيرة على جميع أفراد الأسرة بمختلف مراتبهم، ويترك آثاره الاقتصادية والاجتماعية عليها بشكل عام، ثم لا يلبث أن يزول هذا التأثير السلبي تدريجيا وعلى درجات متفاوتة من الأسر، حسب اختلاف الأسر في عدد أفرادها أو أقاربها، وفي نوعية التعاون بينها، وفي حجم دخلها. فمثلا الأسرة الكبيرة التي تتكون من كبار وصغار ومتوسطي العمر، أوفر حظا من الأسرة الصغيرة، حيث أن الأسرة الكبيرة، يتحمل الكبار فيها مسؤولية الوالد المتوفى فيقومون بسد فراغ الوالد أو الوالدة المتوفاة وتحمل واجبهما تجاه الصغار، وهذا يساعد على تخفيف الأثر السلبي الّذي يتركه وفاة أحد الوالدين. وكذلك الأسر الغنية والميسورة الحال من الممكن أن تتعافى من صدمة غياب أحد الوالدين وآثاره السلبية في وقت قصير. أما الأسر الصغيرة أو الأسر الفقيرة فيمتد بها تأثير غياب أحد الوالدين لفترات طويلة، حيث أنهم يحاولون البحث عن بديل له أو لها، وقد يكون البديل إما أحد الأقارب أو الجيران أو الجمعيات الخيرية أو دور الحضانة، وكلّ هذه البدائل لا بدّ أن تجد من ينسق معهم من داخل الأسرة، فيصعب على بعض الأسر الصغيرة من يقوم بهذا التنسيق مما يجعلهم أقل حظا من الاستفادة من المشاريع التي تقدّمها تلك الجهات.
الغياب بالطلاق: الطلاق أبغض الحلال إلى الله، شرع للمتزوجين أن يلجؤوا إليه إذا ساءت العشرة بينهما، ولم تجد الطرق الأخرى نفعا. يأتي الطلاق كآخر محاولة لإنهاء العشرة التي ساءت بين الزوجين. وفق أحكام وشروط مبينة في الشريعة الإسلامية لسنا الآن بصددها، وهو أحد أنواع غياب أحد الوالدين ويؤثر سلبا على حياة الأطفال.
الغياب بالسفر: يقوم بعض الآباء أو الأمهات بأسفار قصيرة أو طويلة لطبيعة عملهم، حيث من الممكن أن يغيب الأب مثلا سنوات عن أهله وولده بسبب عمله خارج الوطن أو في الأقاليم النائية في بلده والتي لا تتوفر فيها سبل الحياة العصرية، فهذا النوع أيضا له أثره السلبي حيث أن الأسرة لاتفكّر في ملء الكبار فراغه وأداء دوره عنه في تربية الأطفال، علما بأنّ التربية لا تأتي فقط بتدبير شؤون معاشهم وتحويل المصروفات إليهم، بل لا بدّ له من مخالطتهم ومداعبتهم ومحاورتهم ومشاركتهم في بعض الأعمال، ومتابعتهم في أمر دراستهم ومساعدتهم على تذليل الصعوبات الدراسيّة وتشجيعهم وغير ذلك من أدوار يؤديها الآباء في تربية الأولاد. ومما يزيد هذا الفراغ سوءا أن الأسرة لا تنتبه لوجوده ولا تفكّر في ملئه ولا يمكنها ذلك أصلا طالما الوالد على قيد الحياة، وعليه يكون هناك قلق دائم بين الطرفين، حيث أن الوالد الغائب يقلق على أسرته وأولاده بينما الأسرة هي الأخرى تقلق أيضا على والدهم أو والدتهم الغائبة، وهذا هو الآخر له تأثيره على شخصية وتفكير الأطفال.
الغياب المتمثل بالانشغال الدائم عن الأطفال: بعض الآباء والأمهات ينشغلون عن أطفالهم بسبب طبيعة عملهم الطويل والشاق، حيث يذهبون إلى أعمالهم في وقت مبكّر من الصباح والأطفال نيام، ويرجعون من العمل في وقت متأخر من الليل والأطفال نيام، وإن حدث أن اتفق وصوله إلى البيت قبل نوم الطفل فإن الوالد مرهق بسبب العمل الشاق الذي كان يمارسه طوال اليوم فهو بحاجة إلى استراحة، ولا يستطيع التواصل مع أبنائه بسبب الإرهاق الذي يغلبه.
أما الآثار السلبية المترتبة على غياب أحد الوالدين فمن الممكن إجمالها بما يأتي:
الانطوائية والعدوانية: إنه من الملاحظ تربويا أنّ الأطفال الّذين تربوا في كنف أحد الوالدين بغياب الآخر يتّسمون بالانطوائية حيث أن التّفكير الزائد حول غياب والده يؤدّي إلى أن ينعزل عن أقرانه الذين يتمتعون برؤية والديهم، “وغالبا هذا النوع من الأطفال هم الذين فقدوا آباءهم بسبب الموت، إذ أن الحزن والانكسار الناجم عن فقد والده يؤدي به إلى أن يكون منعزلا عن الآخرين، وعليه فإنّ تصرفاته هذه ستؤثر على نموه النفسي والعقلي حيث أن الخوف والاكتئاب يؤثران سلبيا على النمو النفسي والعقلي للطفل، أو يؤدّي تفكيره الزائد في أسباب غياب والده إلى أن يكون عدوانيا يريد الانتقام من الآخرين، وغالبا ما يكون هذا النوع من الأطفال الذين فقدوا أحد والديهم بسبب الطلاق”، كما جاء في دراسة بعنوان غياب الأب والأم عن الطفل وأثرة فى نفسية الطفل، نشر على موقع مصرس في 25/أكتوبر/2013م.
اختلال توازنه: يختل توازن الطفل الّذي يغيب أحد والديه، حيث أن الوالد الآخر مهما بذل من جهد لايستطيع ملئ الفراغ الذي تركه الوالد الغائب، بل إنه من الملاحظ تربويا أن التدليل الذي يلقى الطفل من والده الحاضر تطييبا لخاطره، والقسوة الشديدة التي ربما يمارسها الوالد الحاضر لتكوين شخصية طفله سيؤثران سلبا على توازن الطفل. “وقد يميل الطفل إلى خصائص الوالد الذي رباه حتى وإن كان مغايرا له في النوع. فتصبح الفتاة المتربية على يدأبيها بغياب أمها متشبهة بالرجل في كثير من سلوكها، ويصبح الفتى المتربي على يد الأم بغياب الأب متشبها بالأنثى في كثير من سلوكه”، وقد جاء ما يؤكّد العبارات السابقة في مقال للدكتور محمد زياد حمدان بعنوان غياب الوالد وأثره في تطوّر شخصية الطفل، نشر على موقع التربية الحديثة.
تدني تحصيلهم الدّراسي: غالبا ما يعاني الأطفال ذوو الوالد الواحد من تدني تحصيلهم الدّراسي، وذلك نتيجة للخوف والاكتئاب اللذين يسيطران على الطفل ويعرقلان النمو النفسي والعقلي له، أضف إلى فقدان الطفل ما يقدّمه الوالدان من تشجيع له وحثه على المذاكرة، والمذاكرة معه ومساعدته على تنظيم وقته، وكل ذلك من الأسباب التي تؤدّي إلى تحسين تحصيله الدّراسي، ولا يكفي أن يقوم به أحد الوالدين بمفرده حيث تقع عليه جميع المسؤوليات الآخرى. وأورد الدكتور محمد زياد حمدان في مقال له بعنوان غياب الوالد وأثره في تطوّر شخصية الطفل، نشر على موقع التربية الحديثة، ما يؤكّد الأثر السلبي الذي يخلفه غياب أحد الوالدين على التحصيل الدراسي للطالب، حيث أورد الدكتور في مقاله أنّه “… تنوعت دراسات علم النفس في هذا المجال واختلفت في نتائجها، فمنها ما خلص إلى القول بأن التحصيل العلمي للأطفال ذوي الأب الغائب أقل وأكثر تدنياً في الغالب من ذلك لأقرانهم ذوي الأب الموجود، وأن هؤلاء ( الأطفال ذوي الأب الغائب ) يعانون في العادة من تخلف عقلي. أما آخرون فناقضوا هذه الدّراسات السابقة ومنهم كارل سميث الّذي اكتشف أن هناك علاقة إيجابية وثيقة بين غياب الأب وقدرة الفرد في بعض المواد مثل اللغات، وهو ما أكده غيره من الباحثين الذين وجدوا أن هناك علاقة بين حالات غياب الأب وما تسببه من اضطرابات نفسيّة وعقليّة وصفات الذكاء المتميز لبعض الأفراد”.
ومهما يكن الحال فإن الغالبية من الدراسات والملاحظات التربوية تثبت أن تدني التحصيل الدراسي للأطفال له علاقة بغياب أحد الوالدين.