بين الشورى والحرية تلازم عضوي، كتلازم المبتدأ للخبر، فاذا غابت الحرية أفل شمس الشورى، والعكس صحيح، لأن الهدف من الشورى هو تحقيق الاصابة والسداد في الأمور المتغيرة المرتبطة بالمصلحة؛ فالشورى بطبيعتها تتطلب المقارنة أي ذكر محاسن الاراء والخطط والبرامج، وكذلك الإشارة إلى إلى المساوئ والعيوب لابراز مواضع الخطر؛ (كمن يستشيرك في الزواج والتجارة) وهكذا تنتصر الأفكار القوية الممحصة والبرامج المفيدة، والخطط الناجحة في مضمار السباق، وتموت الاراء المموهة؛ والخطط المرتجلة،، ويكثر الصواب، وتقل الأخطاء، وتسير الأمور على جادة الصواب والسداد.
واذا كان الفرد ( الصحفي أو السياسي، أو العالم، أو الخبير العسكري وهكذا) يستشعر الخطر من الحاكم بسبب ارائه المنتقدة لمشاريع الدولة فانه بين أمرين:
اما أن يسكت ويبقى معطلا متفرجا واما أن ينافق ويطبل لاراء الحاكم وهذا لن ينتج اراء تنقذ الأمة؛ لأن الرأي السديد لن يتوصل إلا بالحوار الجاد، والبحث الصادق، والتحليل الكاشف لأبعاد المسألة المطروحة من شتى الجوانب…
واذا افترضنا أن حاكما يكبت الاراء المخالفة لرأيه فلن يبقى الا صوت واحد، ورواية واحدة في الساحة..
واذا قلنا ان ثمة شورى بمجالسها وهيئاتها مع غياب حرية النقد والتعبير فانها شورى صورية فقط يبقى رسمها ولافتاتها ولكنها منزوعة المعنى فاقدة المحتوى.
واذا أردت معرفة حقيقة الشورى وملازمتها للحرية فتمعن في حياة جيل الصحابة الذين طبقوا الشورى بشكلها الصحيح، فلم يكن أحد يتأذى أو يتضرر من مخالفة رأي الخليفة أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي وهكذا…وهكذا كان بامكان أي فرد أن يعقب أو ينتقد على قرار الخليفة بدون وجل أو خوف، لأن حرية نقد الاراء حق طبيعي للانسان، مكفول بالسنة والقران واذا حاربنا حرية التعبير وأهمها حرية ابداء الرأي في الشأن العام فمعنى أن الشخص يبقى مشلول الفاعلية حين يتعرض للكبت والقهر.
ولا يمكن بأي حال أن تستقيم الأمور، وتنبسط النفوس على سجيتها مع الخوف، بل تكون في حالة توقع الخطر، وبهذا تعوج الطبائع، وتنحرف الفطر، شأن الأسرة التي يلي أمرها أب غشوم يحاسب على الهمس والسر ، ويعاقب على الصدق؛ فينشأ الأبناء على الأحقاد والكذب والتحايل، وهكذا.
وأمر اخر مرتبط بما سبق هو أن الحرية السياسية هي أم الحريات فهي تولد الحرية العلمية، ففي العهد الذي كانت الحرية السياسية متهيأة كانت الحرية العلمية متوفرة، فبامكانك مخالفة الكبير والصغير، واذا خالفت الكبير فلن يضيق عطنه عن مناقشتك، ولن يحجم عن اقناعك؛ ولا تلازم عندهم بين المخالفة وسوء الأدب؛ وقلة الذوق كما يحدث عندنا.
فهذه عائشة –رضي الله عنها- استدركت على الصحابة الكبار وانتقدتهم لدرجة أن الزركشي –رحمه الله- ألف كتابا سماه ” الإجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة”.
وعلى سبيل المثال حينما قال عبد الله بن عمرو بن العاص إن النساء يجب أن ينقضن ضفائرهن ( أي شعرهن الملفوف بعضه على بعض) عند الاغتسال قالت :” عجبا لابن عمرو ، يأمر النساء إذا اغتسلن ان ينقضن رؤوسهنَّ ، أفلا يأمرن أن يحلقن رؤوسهنَّ ، لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله من إناء واحد ، فما أن أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات ” الحديث أخرجه مسلم.
والإمام الشافعي ضرب أروع الأمثلة في تأصيل الحرية العلمية، والمنهج النقدي في كتابه الأم فكثيرا ما ينتقد محمد بن الحسن الشيباني وهو أحد شيوخه البارزين قائلا: وزعم محمد بن الحسن، وينتقد كذلك مالك بن أنس على رأيه في عمل أهل المدينة، وتقديمه إياه على حديث الآحاد، وعلى هذا المنوال تأسس علم (الجرح والتعديل) ليس فيه محاباة، حتى سألوا عليا بن المديني عن أبيه فقال: اسألوه عن غيري، فقالوا : بل نسألك فقال: هذا دينٌ ، أبي ضعيف!. وكذلك محمد بن أبي السري عندما سئل عن أخيه حسينا قال : (لا تكتبوا عن أخي فإنه كذاب )–يعني أخاه حسين ابن أبي السري.
وعودا على البدء فان كثيرا من الفضلاء اذا طرقت باب هذه المسألة يفتحون سيلا من النقاشات حولها باعتبارها مرادفة للانحلال والخلاعة، والاباحية ويوجعون رأسك بأمثلة من قبيل اباحة سب الله وملائكته واللواط ونحو ذلك.
مع أن الحرية الاجتماعية والسياسية ( داخل مجتمع مسلم) يمكن تأصيلها من الجانب الشرعي بالتدبر في مضمون الشورى كما تقدم، وبالتعمق في البحث عن معاني التراضي، والاختيار، والصدق وهي تضاد الاكراه، والقهر، والتصنع والكبت وهكذا.. أما هذه المشاكل المثارة حولها فلن تنتهي طالما أننا نتصور أن (الحرية) منتوج غربي.
كتبه محمد عمر أحمد/ باحث في الفكر الإسلامي.
16 فبراير2019