دخلت الممرضة وهي تحمل بين يديها قطعة من القماش الجاف ووضعتها بجوار السرير الذي عمدت إلى تحريكه ليكون في مواجهة النافذة المشمسة ، كانت الممرضة تتحرك كالأله الجامدة الباردة ، التي إعتادت مقارعة الآلم حتى فقدت محركات الحس ، فكانت تبدوا للوهلة الأولى إنسانة قاسية بلا المشاعر ولكن مع معاشرتي الطويلة لها في المستشفى عرفت بإن مشاعرها صمتت من كثر ما سمعت وشاهدت لسنوات متعاقبة ، قالت عندما يبدأ بالعرق أستخدمي هذه القطعة ، شكرتها بهدؤء ، وخرجت ، رجع الصمت كما كان في الغرفة ، فهذا الصمت هو في بعض الأحيان نعمة كنت أدعوا الله لساعات حتى يمنحني القليل منه ، منذ بداية هذا النهار وأنا لا أسمع إلا خشخشات قدمي ، يبدو بأنه هذا يوم حضي ، فكأن أحمد قرر أن يمنحني ساعات ألتقط فيها أنفاسي ، تنهدت بعمق ، وأنا أتأمله نائم على سريره وهو هادئ على غير عادته ، أسمع تنفسه العميق والعميق ، وبدون شعور مني سقطت دمعتي على يده ، فمسحتها سريعاً لاني تذكرت بأنه لايحب أن يبلله شيء ، كان يحب المطر ويطرب لصوته ويقول الشعر في حضرته ، لكنه يكره لمسته أو الأٌقتراب منه ، كنت أتهكم فيه دائماً وأقول له يأ لك من عاشق يكره مطارحة عشيقه أرضاً ، فكان يضحك ويقول أنا عاشقاً مخلص أكون عاشقاً لغيرك من بعيد ، مطراً كان أو بحراً أو حتى بشراً وأكون لكي كالعقد الغرام الذي يتدلى من رأسك إلى أخمص قدميك ، حتى مع مرور عشرين سنه مازلت أخجل من سماع تلك الكلمات منه ، من قال بأن الأنثى تكبر من الإطراء ، فكلماته كانت تجعلني أجمل النساء ، ونظراته لي تتوجني ملكة تغار منها العروش ، كنت أنثى بذأكرته الدقيقة ، التي كانت تحفظ جميع تفاصيلي الصغيرة ، في رشدي وشبابي وحتى أيام الطفولة ، لم أحتاج يوماً إلى دفتر المذكارات حتى أُدون لحظاتي السعيدة ، بل كنت أذهب إلى ذأكرته و أعيش لحظاتي المميزة بأنعاشها ومداعبتها بالذكرياتنا الماضية ، كان تاريخي بيدأ معه وكنت أعتقد بأنه ينتهي عنده ، كُنت أرى بأن لا شيء يمكن يأخذ تاريخي منه ، فتاريخي كُتب على يديه ، أحبني رغم الفارق الكبير بيننا ، كنت صبيه يافعة وكان شابا راشداً ، كُنت لم أختم تعليمي ، وكان مهندساً ناجحاً ، لم أكن جميلة تخطف الأبصار ، ولكنه وقف أمامي من أول يوم في قمة الإنبهار ، حملت طفلي الأول والثاني والخامس ومازلت في نظرة تلك الصبية التي تحتاج من يمسك بيدها ، كُنت أعشق أن أكون تلك المدللة التي تخاصم وتحارب وفي نهاية اليوم تبكي وتراضي وتدعوا الله أن يبقى فوق رأسها رجلاً تموت في همسته كل أنواع الخوف والضعف ، و تحيى من نظرته شموع الحب ولهيب الشوق .
كنت كذلك لسنوات ، ولكن كأن تلك الشمس التي كانت تشرق فينا قد بدأت تتعب ، وأثار تعبها وصل إلى ” ذأكرته” فلم يعد ذلك الرجل الذي يعرفنا ، بدأ ينسى وينسى وينسى حتى خشيت ذات يوم أن ينسى أسمي ،، آآه وسقط أسمي من ذأكرته يوماً ، بكيت ذلك اليوم حتى تعب البكى مني وأبكيته معي فقد شعرا كِلانا بأن هناك شيء غامضً و مخيف يتربص بنا، لأول مرة شعرت بإنه خائف ، مسكت بيده وجدتها باردةً ترتجف ،
قال : منى أنا لست على ما يرام ،حاولت و حاولت يبدوا بأن الأمر خرج من يدي ..
قلت : هل تخفي عني شيء !! أحمد لا أصدق ذلك !
قال : لم أقصد أن أخفي عنك .. لكني لم أرد إخافتك ..
قلت : أحـــــــمد !
…………..
مرت ثلاث سنوات على تلك المحادثة التي كانت بدأية لفصل جديد في حياتي ، فصل ملئ بالمستشفيات ، وروائح الأدوية المقيتة ، وخطابات الأطباء المنمقة ، وفراق الأبناء المضني ، وموت بطئ للحب ، عرفت مع الأيام بأن الحب يحتاج إلى ذأكرة ليبقى بأبهى صورة ، لكني جهلة حتى أيقنت بأن للكل شيء ذأكرة الحب والألم والفراق والموت والقدر كل هؤلاء لهم ذاكرة ، لكننا بشر نعتاد الأشياء وندمنها حتى ننسى طبيعتها المتقلبة ، و ربما لا نعلم ذلك حتى تغادرنا أو تطرق على أبوابنا وهي بصورة مختلفة ، زأرني “ زهايمر” وكان من
خبايا القدر المخيف الذي لم أتوقف يوما أمامه إلا عندما طرق بابي بغتة، مع مرور الأيام عرفت مامعنى زهايمر ، فقد تلبس أحمد حتى نسي كل أنواع السلوك البشري ، فبعد ما كنت أقراه عن ظهر قلب ، أصبحت لا أعرفه أبداً ، يقول الأطباء بأن أيامه في الحياة معدودة ، ويحب علي أتسلح بالصبر ، لأن سوف تكون أمامي أياماً شديدة الصعوبة ، فتح أحمد عينيه ونظر حوله تلك النظر الفارغة التائهه التي تخترق قلبي بلا رحمة ، وقلت ربما الموت أرحم من مشاهدة تلك النظره القاتلة !