جرت العادة في كل عام من هذا الشهر أن يشتعل الجدل المحلي حول قضية المولد النبوي، من حيث جواز الاحتفال به أو عدم جوازه، وكأن كل تلك السنين من التجاذب لم توصل حقيقة واحدة للعقل الجمعي، بكل تنوعاته، وأطيافه فئاته وتقسيماته ، وهي أن “التعايش” لا يشترط إقتناع كل طرف برؤى وتصورات الطرف الآخر، وأن هذه القضايا التي تبلغ من العمر قروناً طويلة لا يمكن حسمها بمجرد المنع أو التحريم أو التبديع أو الاتهام المتبادل، ولكن يمكن بكل سهولة بقاؤها مع إمكانية التعايش مع أطرافها المتنوعة، مع قليل من الكلم الحسن والقول اللين فيما يشوب حولها من غلو وإفراط.
قبل فترة قليلة شعر البعض من الاخوة السلفيين في العالم الاسلامي والخليجي على وجه الخصوص بما يشبه الامتعاض من توصيات مؤتمر غروزني التى أقصت وعن حسن نية طرفاً من دائرة أهل السنة والجماعة ، – بالرغم أني لا أؤمن بهذه المسميات والتقسيمات- وفي حين كان شعار من تم إقصائهم التهميش وعدم الاكتراث لما جاء فيه، لفت نظري همس بعض عقلائهم أن هذا الإقصاء ماهو الا “بضاعتنا ردت إلينا” وقد صدقوا في ذلك .
كان بودي أن يكون هذا المؤتمر مفيدا لنا جميعاً وخاصة في مجتمعنا المحلي لإعادة الكثير من الحسابات حول قضايا التعايش المذهبي، وضرورة تضافر الجهود حول تعزيزه وترسيخه صوناً للحمة الوطنية من التشظي والإنقسام اكثر مما هي عليه اليوم، ومن يشاهد مواقع التواصل سوف يصدم من كمية الكراهية المبثوثة أثناء نقاش قضية المولد من الطرفين، فإذا لم نكن قادرين على التعايش مع اختلاف فرعي ضمن المذهب السني المشترك! فكيف سنتمكن من التعايش مع من هو خارج المذهب فضلا عمن هو خارج الدين بالضرورة؟.!
أعود فأقول أن قضية التعايش من القضايا التي لا تقبل القسمة على اثنين، وهي عنصر استقرار اجتماعي وأمني يسهم فيه الدعاة والوعاظ ورجال الدين وفق المسؤولية الدينية والوطنية والاجتماعية الملقاة على عواتقهم.
ونعني بالتعايش الكف عن التنابز المذهبي أو الديني المتبادل، والعيش بسلام في ظل دولة تتكفل بفرض النظام والاستقرار وحماية الجميع، هذا هو التعايش في أبسط صوره، فضلا عن الحديث عن المحبة المفترضة والتي تتناسق مع سياق هذه الآية الكريمة “ليس عليكم جناح في الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين” .
وهذه هي الغاية الفلسفية التي جاء بها الدين الإسلامي كما يفهمها كل من يمتلئ قلبه بالمحبة والنبل الإنساني والخير للجميع، والذي لا يحتاج معه إلى أي نوع من الكراهية كي يعيش في هذه الحياة!
يمكن لنا وبكل سهولة، في إطار التصحيح الديني المفترض في هذا الزمن، أن يبادر علماء الدين من كل المذاهب بردم الفجوة الهائلة بين الأدبيات المذهبية والاجتهادية وبين الواقع ومتغيراته، فتتوقف لغة التبديع والتكفير بين المسلمين، ولن تكون أبدا خيانة للمذهب أو لتلك الأدبيات، بل ستكون مبادرة شجاعة لإنقاذ المستقبل والأجيال القادمة، ويمكن أيضا في بعض الأحوال اعتبارها ضمن (فقه المقاصد) المعتبر شرعاً.
تكمن خطورة الجدل المحلي السنوي حول قضية المولد النبوي بالذات، من بين كل القضايا ذات الجدل الفكري أو المذهبي أحيانا، أن هذه القضية قد تنحرف عن سياقها لتتحول إلى تجاذب مناطقي عنصري تدخل فيها النزاعات العرقية لتلعب دورا خطيرا في هذه القضية ذات الأبعاد الثقافية المتجذرة، فالمولد النبوي يعد تقليدا أصيلا في بعض المناطق والقبائل لدينا مثلاً، وهنا يمكن للجدل أن يأخذ طابعه العنصري أحياناً، كما نشاهده واقعاً اليوم مع إخوتنا الدراويش في هرجيسا “تما وين” حيث الإنعزال التام ، وعدم السلام ومشاركة الاخر اعيادهم وافراحهم ومناسباتهم ومساجدهم !، وهذا والله مما يهدم أهم مقومات التعايش بين أبناء الوطن الواحد.
ولهذا السبب، يجب فرض التعايش فرضاً، والأخذ على أيدي كل من يحاول تجزئة هذا الكيان من الطرفين وفق معايير تجاوزها الزمن ولا تخدم الواقع بأي حال، بل هي عبء عليه، ومن هنا أتوجه للدعاة والوعاظ وخطباء الجمعة بمناشدة أخوية لفهم المرحلة، والكف عن إعادة الاجترار في البث الطائفي والمذهبي، ورجائي أن تعيدوا التأمل فيما يمكن أن يقال للناس وفق فهمٍ جديد ودقيق للواقع ومستجداته ودروسه المحيطة بنا من كل جانب!
وفق الله الجميع وكل عام والامة الاسلامية بخير وأمن وسلام .