بعد انتهاء سلسلة ” عباقرة لهم أصول في منطقة القرن الإفريقي” أحسستُ همسات خفيفة في أذني تنبع من حافة أقلام مبدعينا الشباب في الجزيرة والشام وكنانة الله في أرضه، ويقرع لمساتهم المبهرة على مخيلتي بل ويزاحمني ليل النهار وفي اليقظة والنوم كالكابوس المفزع معاتباً علىّ بعدم الحاقهم بالأجداد رغم أنّهم أثبتوا بأنّهم لا يقلون ابداعاً ومزاحمةً في ميدان الأدب ودروبه، بل تجاوز سمعة هؤلاء إلى آفاق بعيدة كما ذاع صيتهم إلى ما وراء البحار والقارات بشهادة أقرانهم في وطننا العربي الكبير، – ولله الحمد والمنّ – ولكن بالصمت المفرط تتوق رغبة هؤلاء للحاق إلى ركب الزيالعة والجبرتية والمقدشاوية والذين ترجم لهم ابن حجز العسقلاني والذهبي والجعدي والزبيدي والزركلي وغيرهم، غير أنّي كم تمنيت أن يترجم هؤلاء بأنفسهم كما فعل الشيخ إبراهيم حاشي محمود في كتابه” كفاح الحياة”، ومع ذلك وحتى لا يستمر اللوم والعتاب طويلاً أردت إشارة إلى اثنين من تلك الطيور – وما أكثر نسورنا الخضر – ولكن بالتساوي بين الجنسين، فأرجوا من باقي نسورنا أن يخففوا عنّا العبء الكبير والثقل الثقافي عندما يهدأ بالهم وينفتح الطريق لكي يسلك أقلام باحثينا وكُتّابنا إلى مصيدة هؤلاء إلى مقالبنا البحثية المتنوعة ومآثرنا الحضارية الملونة بغية تكملة المشروع والبحث عن تلك الجواهر الثمينة الغالية والجماجر المخفية المضيئة التي غابت عنا درحاً من الزمن في أصقاع كثيرة من هذا الكوكب الفسيح، ولكنهم أبوا إلا أن يكونوا كاللؤلؤة على جنبات ميادين هنا وهناك بابداعاتهم الباهرة في محافل ثقافية ضاربين بالألحان العذبة والأوتار المليحة هزت في أورقة متنوعة رغم الأنف، فاعتلوا على المسرح الإقليمي والعالمي رغم أنّهم ترعرعوا في بيئة غير بيئتهم الأصلية، في جزيرة العربية شرقها وغربها إلا أنّ فرساننا أصبحوا غراً محجلين يشار إليهم بالبنان بسبب جمال أدبهم وروعة نتاجهم وجباههم مزينة بالبياض الناصع كالفرس المحجلة.
فالطيور كعادتها وكما خلق الله سبحانه وتعالى تغدوا خماصاً وتروح بطاناً، مما يستوحي أنّ كل الإنسان ينبغي أن يعلق آماله وآلامه مع الله وحده، وهو الذي يشفي المريض ويطعم الجائع الخنوت، بل كل شيئ في هذا الكون يسير على قَدَرِه وقُدرَته. ونحن لا نستغرب إذا كان بداية انطلاق طيورنا فارقة البطون وخالية الأفكار، بل لم يقطر على بالهم يوماً من الأيام سوف يعتلون قمم الجبال ويتربعون على مسرح الثقافة العربية ومعارض كتبه يجذب بسماتهم الأدبية الفريدة أنظار جماهير القُراء من عالمنا العربي هنا وهناك، ولكننا نتمنى الرجوع إلى أرض الأجداد ولو بزيارات خاطفة بعد أن كرعت بطونهم بالعلم وجمال الأدب وريحانه، يشاطرون الأفراح والأتراح لأمتهم، ويرسمون لوحة حب ووئام تعيد البسمة والبهجة لذويهم وتشفى العليل، بل لعلّ ذلك يأخذ درواً في إعادة آمال الأمة البائسة ويحقق أحلامها، كيف لا.. وشبابنا الرواد كالطيور يعشقون التحليق والارتياد إلى آفاق مختلفة.
وأكثر من مرة أوحيتُ إلى بعض الزملاء الفضلاء بأنني أحلم أن يتحقق يوماً من الأيام إرادة وطنية تحرص على تتبع أهلنا المبدعين في الآفاق المختلفة من العالم بغية أن يستفيد الوطن من خبراتهم وتجاربهم، وخاصة إذا عرفنا بأنه لا يوجد فنّ من الفنون أو علم من العلوم إلا وقد تزاحم شبابنا ، ولعل بعض المجالات فاقوا على أقرانهم، غير أننا نعرف بأنهم برزوا في مجالات اللغة والأدب، وفي الفنّ والرياضة، وفي عالم التأليف والإبداع الثقافي، كما أنّ هناك نخبة فرضت نفسها على ميدان الفلك والهندسة وحفر الحقول البترولية والمعدنية سواء في البحر والبر، وفي الطب بأقسامه المتعددة، وربما بعض هؤلاء مرشح للنيل بجوائز عالمية وميداليات دولية، فما أحوج الوطن الجريح أن يستفيد تلك الجهود الغالية التي لها أصل في بلاد الإبل والموز، بل وتفتخر بانتمائه وتتوق إلى نصرته والوقوف معه لاخراج محنته العصرية التي أساءت عزة أجدادنا الميامين وسمعة موروثنا الثقافي ومجد تراثنا الحضاري.
فالطيور على أشكالها تقع .. ومن البديهي أن يحتك روادنا البواسل مع الأشخاص لهم سبق في العلم والتقدم الحضاري يشارك في بوتقة التخصص أو في المهنة، ومع المؤسسات لها رونقها وسمعتها العالمية، وخوفي أن ينسى هؤلاء ذويهم إذا طال عليهم الأمد واستمر التخلف وتقهقر البلاد إلى الوراء، ومن هنا على الباحثين والمثقفين أن يبدولوا أقصى ما عندهم من الجهود في لملمة شلم هؤلاء وتتبعهم والتعرف بهم والبحث عنهم ولو بشكل انفرادي حتى نستمتع بتغريد العصافير الجميلة ..
ومن المعلوم فإنّ بعض الطيور تنتقل من بلد إلى آخر بل ومن قارة إلى أخرى – حسب المواسم – بسبب ما تتمتع من أجنحة طويلة وعضلات قوية، وهجرة الطيور السنوية لمسافات طويلة ما يميّز عن غيرها، وكذلك فالنسور السمر من أهل الصومال يتواجدون في كل مكان في كل لحظة وبرهة جبراً واختياراً في حركة مستمرة لا تهدأ… ولكن إذا كانت هذه الطيور تطير بجناحيها وعضلاتها فإن نسور الصومال المهاجرة تطير بنياتها الصافية وعزائما القوية رغم كل الظروف الصعبة وما يثير حولنا من خزعبلات وأكاذيب ، بل ويضرب كل مثل سئي فينا على ألسنة الأحباء والأقرباء هنا وهناك ولو اعتذروا بعد ضرب كل مثل ذنيئ فينا.
وإذا كانت لبعض الطيور منقار والريش تستخدم في نمط حياتها وطيرانها، فإن طيورنا الأحباء لهم عقول وحواس يجعل يستخدمون سمو الأخلاق والأفكار النيرة قبل ريشة أقلامهم، ومن فضل الله سبحانه وتعالى حقق بعض فرسننا المكانة المرقومة في أكثر من مكان بسبب صمودهم وإرادتهم القوية رغم كل المعوقات بغية الوصول إلى الكرامة وعزة النفس أبهرت من كان حولهم.
وحتماً يستوجب سؤال وجيه وفي محله: ” لماذا تضرب الأمثلة هنا الطيور بأنواعها؟” … لأنها – كغيرها من الحيوانات التي خلق الله – تشارك في العديد من السلوكيات الاجتماعية المختلفة التي تساعدها على الحياة الفطرية، كالحرص على الآخرين والعناية بالصغار و الضفعاء، وكذلك حماية الوطن والمسكن، والبيئة بما فيه الصيد وغيرها، فضلاً عن الطيور لها الألوان الزاهية ونبرات الأصوات الجميلة كزقزقة العصافير وتغريد البلبل وشدوه وعندلة العندليب.
ولأنّ الطير تعلق بها علماؤنا وأدباؤنا الأوائل كعبد الله بن المقفع بالحمامة المطوقة في كتابه “كليلة ودمنة” وأبي محمد ابن حزم الأندلسي في ” طوق الحمامة في الألفة والألاف”، إلى أن جاء فريد الدين العطار ووضع “منطق الطير” وهو عبارة عن منظومةٌ رمزية تبلغ 4500 بيت نظمها الأديب. وقبل ذلك كله افتخر سيدنا سليمان بن داود عليهما السلام بأنّه تعلم منطق الطير قائلاً: ” … يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين …”.وفي العصور المتأخرة أصبح بعض أنواع الطيور رمزاً لبعض الدول، لأنها – أي الحمامة – اقترنت ترمز السلام والعزة والكرامة، بل ويكفينا أن نشير إلى أحد الأنواع الطيور وهو الغراب علم الإنسان ما لم يعلم وأصبح معلمه الأولى ومساعده عندما علمه كيف يواري سوأة أخيه، وكما أصبح الهدهد داعياً إلى الله سبحانه وتعالى ومتعاوناً لنبي الله سليمان في نشر التوحيد والعقيدة الصحيحة مع قوم بلقيس والتي دخلت في دين الله قائلةً: ” .. ” رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين “.