بحكم أن المجتمع الصومالي مجتمع نوعاً ما يمكن تصنيفه على أنه مجتمع تقليدي -قبَلي- غير متحضر ، بل وما زال يعيش بداوته القديمة التي ورثها عن أسلافه ، بداوة امتزجت بالجهل مع شيءٍ من الغرور والصلافة والأنا القبليّة البغيضة ، والتي بلا ريب زادت من أوجاعه المزمنة، وعمّقت من شرخه داخلياً، وتأخُّر نموه حضاريّاً، بل ووقفت أمام سنن التطوّر ونواميس التغير الكوني مدة من الزمن .
ويعرّف علماء الاجتماع المجتمع التقليدي بأنه “مجموعة من البشر التي تعتمد نوعاً من الأساليب غير العلمية والعملية ، والتي ترتبط بأسس تاريخية لها قد تكون أسطورية لتكوين أسس ارتباط بين أفرادها” ..!
وبقليلٍ من التأمل في التعريف السابق أعلاه نجد أن بنية المجتمع الصومالي تتركّب من مجموعة من العشائر والقبائل ، وكل قبيلة منها قد أحاطت نفسها بمجموعة من الروايات والأساطير والقصائد الوهمية التي تغذّي فكرة أنها مركز الأرض ومحور التاريخ ، ورؤس جُهال مهمتهم التكسّبُ والتنفّعُ خلف قناع الدين والإصلاح والإرشاد زعموا، و سياسيين فسدة يقومون على مصالح القبيلة الضيّقة في الحكم ، فأغلقت بذلك أبواب النهضة ، وسُدّت منافذ المعرفة ، وأطفئت شعلة التنوير ، وجذوة التجديد ، ونضب مخزون الإبداع، ووقفت عجلة التغيير إلى حين.
إن هذه العزلة الغريبة والنظرة الاستعلائية التي يتمسّك بها سدنة هذه المجتمعات أصبحت عائقاً أمام أفرادها نحو الانفتاح على الثقافات الأخرى ، وتبادل الحضارات والحوارات معهم ، إذ كيف يستقيم أن تكون الجغرافيا الصومالية تحيط بها خمس حضارات كبرى ، كالحضارة الهندية والفارسية والعربية والمصرية والأثيوبية وغيرها ، ثم إذا قارنت ذلك مع حالة البؤس الثقافي، والعوز الأخلاقي، والانحلال الاجتماعي، وانعدام الانتماء الوطني ، والهروب الجماعي لزهرة شبابه بحثاً عن مجتمع آخر يستقيم فيه منطقه مع واقع عصره، تيقن لديك أن لاشيء يذكر انعكس عليها من مجمل تلك الحضارات على الإطلاق.
قد يحصل أن يصل بعض الأفراد نتيجة القراءة المكثّفة، والاطلاع الواسع ، والاحتكاك بمجتمعات وحضارات مختلفة ، إلى رؤية أبعد وقناعات أرحب، تتعدى مستوى الجمود الذي يعيشه واقعه ، وأن يتصف بكثير من الصفات الحميدة والأخلاق النبيلة ، إلا أن كل ذلك لا علاقة له بمعيار تقييمهم – أقصد السدنة- لك ، وترحيبهم بك بينهم، وقبولك وسطهم ، بل بمدى تماهيك وانسجامك مع تقالديهم وأوهامهم الرسمية البائسة، تلك التي وضعها سدنة المجتمع، فيكون الفرد بين مفترقين أحلاهما مرّ، أن يؤمن بها فيخسر نفسه ، أو أن يعاديها فيخسر قومه ، بإقصائه ونبذه وتسفيهه واغتيال شخصه وجعله عبرة لغيره ، اللهم إلا إذا عدل عن ذلك ، وأجّر عقله لهم ، وآثر السلامة بحجة “أنّي أريد أن أكون مقبولاً بينهم، وسأكون حسب رأيهم على صواب” .!
إن للأجيال القادمة علينا الكثير من الواجبات والتضحيات الأخلاقية المفروضة علينا تجاههم ، تلزم كلّ منا إعادة ترتيب نفسه ، وإعلان بداية النهاية لعصر هؤلاء المنتفعين، ومحاربة مظاهر التشرذم والتفرق باسم العرق أواللون أوالقبيلة ، والدعوة إلى جمع الكلمة ووحدة الهدف والمصير للأمة الصومالية ، والإيمان أكثر بضرورة إحلال مفاهيم جديدة ، وغرس قيمٍ اجتماعية حديثة تتناسب مع ركب الحضارة الحديث ، لا أن يكون البون شاسعاً أكثر يوماً بعد يوم بين التطوّر الملحوظ عمرانيّا وتكنولوجيّاً وبين تخلفه دينياً و أسرياً وتربوياً واجتماعياً وسياسياً.
أرجو الله أن يهيء لنا بحكمته بوادر للخروج من هذا التخلف المحيط بنا ، وطلائع شبابيّة تتحمّل الكثير في سبيل طمس معالم الفجوة الثقافية والتنموية بيننا ، قولاً وعملاً وسلوكاً ، وتعمل على تأكيد ذاتهم ووجودهم بما يعتقدون وبما يفكرون ، من غير ما رهبة أو خوف، بما لا يخالف الثوابت ، والصدح عالياً بأن هذا الزمان زماننا لا زمانهم ، ووقتنا لا وقتهم ، وعصرنا الذي نريده أن ينسجم مع طموحنا الذي لاحدّ له ، لا أن نخسره مرتين في هذه الظروف وأجواء الاضطرابات السياسية والاجتماعية والعلمية التي خلفها لنا هؤلاء السدنة باعدهم الله عنا، وباعد معهم كلّ من سعى إلى إطالة فترة بقائهم في الصورة العامة للمجتمع الصومالي .. اللهم آمين