لا جدال أن تركيا الحديثة بقيادة الرئيس أردغان وحزبه محط أنظار الشعوب الإسلامية معلقة عليهم آمالا عريضة، ولم تتبوأ تركيا بهذه المكانة من قلوب المسلمين من فراغ بل بسبب ركيزتين مهمتين: الأولى هي تركيا القوية بفضل سياسات حزب العدالة مما أكسبها تأثيرا سياسيا على مجريات الأحداث الدولية، والركيزة الثانية هي ما تتمتع به تركيا من استقرار سياسي، وحكم ديمقراطي جعلها نموذجا لبلد مسلم سني يختار قادته بالكفاءة كل هذه العوامل مجتمعة أعطت لتركيا جاذبية، وأهلها للتطلع إلى استعادة دورها كمركز لقيادة المسلمين.
وتجدر الإشارة ثانية إلى أن تركيا الحديثة بقيادة حزب العدالة ذي الخلفية الاسلامية تقوم على فسلفة متعددة الابعاد وهي فلسفة تعتز بتركيا العثمانية وشخصياتها وأيامها وآثارها، واستتبع ذلك إعادة النظر في طبيعة علاقاتها الخارجية، وصياغتها بما يتوافق مع هذه الرؤية ، وأقرب دليل على ذلك هو تحركات أردغان وأغلو (رئيس الوزاء السابق) الذي يدعم المعالم الإسلامية أينما حل في الخارج ، ويؤيد ذلك أيضا موقف تركيا من قضايا المسلمين خصوصا قضايا قضايا المستضعفين وفي مقدمتها شعب فلسطين ومسلمي الروهينجا واللاجئين السوريين وأمثالهم، وسعيها لرفع الحصار عن غزة قد أدى ذلك إلى تصادمها مع إسرائيل ، واخيرا اشترطت لعودة العلاقات معها السماح للإغاثة التركية الوصول إليها. ومجيئها إلى الصومال يندرج في هذا الإطار بالإضافة إلى مصالح اقتصادية وسياسية.
واضح أيضا أن حزب العدالة هو وارث نضال وتضحيات العديد من المصلحين العظام والأحزاب السياسية التي كافحت لاستعادة هوية تركيا المسلمة وليس تركيا التي صنعها أتاتورك المعزولة قسرا عن العالم الإسلامي منذ إطاحته بالخلافة الإسلامية عام 1924م وكان آخر تلك الأحزاب التي كافحت لتصالح تركيا مع هويتها حزب الرفاه الذي قاده نجم أربكان الذي أطيح من سدة الحكم كرئيس وزراء منتخب على يد الجيش التركي عام 1996م.
من جانب آخر فإن الشعوب المسلمة تعيش في حالة فراغ من القوة ، وتتلهف إلى قوة إسلامية سنية تلبي تتطلعاتها، ومن أولى تلك التطلعات هو الدفاع عن قضاياها، وفي مقدمتها قضية فلسطين ، وبالنسبة لتركيا وقيادتها فمن الواضح أنها تغالب النهوض من بين ركام ثقيل تجسده قومية متطرفة، وعلمانية متجذرة في آن واحد تتجه بسفينة البلاد بعيدا عن الأخوة الإسلامية ومقتضياتها، وحتى الآن قد خطت خطوات شاسعة جدا تفصلها من تركيا أمس، وقد تحققت هذه القفزات العظيمة دون اللجوء إلى شعارات إسلامية، ولكن بتحقيق قائمة من الإنجازات الاقتصادية والسياسية تمس حياة المواطن وهذا بخلاف الكثير من الأحزاب في البلاد العربية التي تسوق نفسها بشعارات إسلامية في مجتمع يعاني من الظلم والتخلف الاقتصادي.
إن تركيا ما زالت علمانية لأسباب مفهومة، ولكن الحزب بفضل تعزيزه للهوية الإسلامية داخليا فقد حاصر بعض مظاهر الفساد، وأحيا العثمانية ، ودعم اللغة العربية.
الإصلاح المنشود في تركيا أصبح واقعا لا تخطئه العين ، وتتمثل في وجود تغييرات على كل الأصعدة الاجتماعية والسياسية والقانونية بما يخدم الهدف الأكبر في سياستها الجديدة التي هي دعم الهوية الإسلامية للبلاد، كدليل ملموس على وجود إصرار من قبل الحزب وقياداته.
اقتراب تركيا من قضايا المسلمين، وحملها زمام المسئولية كلها دليل على وجود رؤية موجهة ولا تقع جزافا، وقد جلبت هذه السياسة لتركيا عداء المعسكر الغربي، وهو عداء ما زال منحصرا في الحرب الدبلوماسية والإعلامية الصامتة ودأب الإعلام الغربي وصف أردغان بالإسلامي المعتدل، ووصف بوتين أردغان بأنه يسعى لاسلمة تركيا ! إثر إسقاط المقاتلة الروسية.
كم هو مؤلم أن الشعوب الاسلامية تشاهد مدى الاستكبار والاستعلاء الذي تمارسه القوى الغربية، وفي مقدمتها أمريكا وإذلال المسلمين في كثير من الأقطار والتفريط بقضاياهم وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني، ثم لا تجد موئلا تلجأ إليه؟
وبالتالي فوجود تركيا مقودة بهذه الرؤية مبعث اعتزاز للشعوب المسلمة من جاكارتة الى طنجة ، وهي تفخر بتركيا القوية اقتصاديا ، الناهضة صناعيا، المتقدمة عسكريا، ويرون هذه القوة لصالح المسلمين وقضاياهم في زمن لا يجدي فيه الا القوة.
كثير من الدول الاسلامية ذات الثقل السكاني والوزن السياسي تترنح من فتن داخلية مثل باكستان الدولة النووية الاسلامية وبعضها يسيطر عليها حكومات علمانية آثرت صياغة علاقاتها مع العالم وفق رؤية قطرية تقليدية، ويمكن ضرب اندونيسيا -أكبر بلد مسلم من حيث السكان -مثالا لدولة يطغى توجهها القومي العالمي على إحساسها بالمسئولية تجاه المسلمين وقضاياهم.
أكثر الدول العربية ومعظمها دول نامية متخلفة عسكريا وضعيفة اقتصاديا أضحت مشلولة بصراعات داخلية وتوزعت على اعتبارات مذهبية وأيدلوجية فمنها ما هو تابع للمحور الايراني، ومنها ما هو دائر في فلك الحلف الأمريكي.
لا يعني كل ذلك أن تركيا أعلنت عن تخليها عن فلسفة الدولة القومية الحديثة التي تعلي من شأن تركيا وتتعامل مع العالم من منظور مصالحها ولكن الغرض هو أنها بدأت تشق الطريق، وأن سياساتها تصب في صالح تقوية المسلمين وتركيا معا في المنظور المتوسط والبعيد.
إن الإطاحة بأردغان وحزب العدالة يعني ضربة قاضية على تلك الرؤية الإستراتيجية التي بلورها الحزب خلال 14 عاما مضت، والتي تسعى إلى وضع تركيا في صلب العالم الإسلامي وقضاياه، وقد يحل محلها كتلة علمانية متطرفة تنهج نهجا مضادا متطرفا تقوي علاقاتها مع الغرب ومع روسيا وإيران وفي ذلك خسارة كبيرة للشعوب الإسلامية.