بضعة عشر غريقًا في رحلة الهجرة غير الشرعية، لم يكن الخبر الجديد على مسامع الصوماليين، فلطالما تكرر على سواحل الإيطالية عبر الممر الليبي، إنمّا ما أثار الضجة الكبرى، كان تسريب صور تدلّ على تعرّضهم لشكل من أشكال الجراحة، وانفعال مذيع النشرة الإخبارية فجّر الأمر ليتحوّل لحديث الساعة، ولم تمهل الأيام الصوماليين حتى ألقت إليهم بأنباء غرق قريب من مئتين آخرين، في ذات الرحلة!
ما الجديد في الأمر:
لم يكن هنالك من جديد في تلك الأنباء المتلاحقة على عظم تأثيرها، على الجميع بما فيهم كاتب هذه الأسطر، صغيرنا وكبيرنا تأثّر بما حدث بصورة غير مسبوقة، لأن حجم التجاوب والتغطية جعل المأساة تتجاوز الجانب العائلي والعشائري، إلى اعتبار الأمر ولو المرة الأولى ـ بتصوّري ـ إلى خسارة وطنية وقومية جعلت الجميع يتفاعل معها بصورة وحّدت الصوماليين المستقرين بالداخل والخارج، على فتح حوار محموم يبدأ بالتنديد بالانخراط في تلك الرحلة التي تنتهي في حالات كثيرة بالهلاك أو مصائر أخرى لا تقلُّ شناعة عن الموت.
وجهة النظر الأخرى:
لا شكّ أن آلاف الصوماليين منخرطون حاليًا في سلوك الطريق نحو أوروبا، و هم عالقون في بقاع عديدة، سواءًا إثيوبيا أو السودان أو مصر أو تشاد أوتركيا، أو سمّ كل بلدان المرور والعبور نحو القارة العجوز، أولئك الآلاف المظرون لدورهم في الوصول إلى ساحل المتوسط الجنوبي، لخوض المغامرة النهائية بعبوره إلى الشمال، لديهم وجهة نظر، يوافقهم عليها مئات الآلاف من الفئات العمرية الشابة، سواءًا كانوا راغبين وعاجزين عن الهجرة، أو غير راغبين فيها لسبب أو للآخر!
لماذا تخوضون تلك المغامرة؟!
هذا هو السؤال الذي يريد الذي يطلب المتأهبون للإنطلاق أن يَطرح عليهم من قبل المجتمع حتى آخر لحظة قبيل انطلاقهم، هم المتأهبون ومعهم المنخرطون بالفعل في رحلة البحث عن حياة أفضل، يخوضون خلالها غمار المجهول، ورغبتهم في أن يُسألوا “لماذا تنخرطون في تلك المغامرة؟!”، لكن المشكل القائم أن الجهة التي تطرحه ليست الجهة التي يجب أن يَبلُغها السؤال وتتحمل مسؤولية طرحه، لتتعامل مع الإجابة الصعبة بصورة عملية تليق بمسؤوليتها تجاه المجتمع الذي تدّعي تمثيله والمطالبة بحقوقه!
كيف لا ويمكننا نحن المواطنون العاديون أن نعدد الأسباب ونتوسّع فيها، ونوزّع اللّوْم والاتهامات، ونشتد أكثر على الطرف الأضعف في المعادلة، وأعني بالطّرف الأضعفِ الفئاتَ العمرية الشابة التي يتم طحنها في مجتمعاتنا على كل الصُّعُد، وفي كل لحظة من لحظات وعيها وبلوغها مرحلة إدراك أن على الواحد مسؤولية تجاه نفسه ومن يحب!
أسباب مسكوت عنها:
إننا في مجتمع يتغنّى بالعادات والتقاليد، مع أنّه خلال العقود الماضية منذ الاستقلال، يعاني تدهورًا كبيرًا في القيم، قاد إلى كما كان ثمرة لانهيار الدولة والدخول في مرحلة الإجرام والإنتقام والعداوة والتدمير، إلّا أن ذات المجتمع المتحلل في توجهّات أقويائه، لازال يمارس نوعًا قاتلًا من النفاق، زاوج فيه بين ميوعة المعايير الأخلاقية، مع تحجّر في المصطلحات التي تتحدث عن ضرورة الاستماع إلى الكبير واحترامه وعدم التصرف دون مشورته وأمره!
يؤدي هذا إلى أن أي وجهة نظر يطرحها الأفراد الأحدث سنًا، وإن كانوا أكثر تعلميًا وأوسع وعيًا بما يجري في العالم، ومستجدات الحياة، وتغيّر مفاعيل الحركة الاقتصادية، والتباين الذي شهدته أساليب كسب الرزق الحلال، عمّا كانت عليه قبل عشر سنوات أو ربع قرن ناهيك عن نصف قرن!
ارهاصات ما قبل أخذ قرار الدخول في “مود” التهريب!
من خلال الحديث مع أفراد من خلفيات متنوعة، المولودين والمتعلمين في الداخل، أو مواليد البلاد العربية العائدين، نجد أن المشترك بين الجميع دخولًا في حالة من اليأس والقنوط، تبدأ نتيجة لاستعصائ الخروج من حالة “العالة” التي يعيشها الغالبية من سكّان البلاد، منتظرين الحصول على المال الضروري لنفقاتهم من قريب مقيم في الخارج، أو شخص غالبًا لا يكون مُلزمًا بالإنفاق لولا تقاليدنا المرتبطة بالتضامن الشديد والترابط، والصلة والتراحم.
لا مبالاة تجعل الجميع عرضة للابتزاز!
وتلك الحالة النفسية السيئة يمكنها التفاقم سريعًا، في ظلّ مجتمع مستعدٍّ أفراده وأسره وعائلاته لجمع مالغ مالية ليست بالهينة، أو حتى بيع عقارات أو رهنها، لافتكاك الإبنة أو الابن من براثن سمسار النقل غير الشرعي للبشر، خوفًا من أن يتحمّل أحدٌ اللوم على تعرّضها أو تعرّضه لأن يكون مادة لتجارة الأعضاء التي تروج وتتسع، حتى وصلت إلى داخل بعض المدن في البلد!
في حين أن الإبنة أو الابن يحتاجون لمساعدة يبدؤون بها عملًا ما، مبلغ لا يتجاوز ربع ما يمكن إنفاقه على تلك الرحلة غير المأمونة العواقب، أي أنّ هناك إدراكًا كبيرًا لدى الفئات التي تدخل تلك المغامرة، أنّه لا يمكن لأحد أن يقدّم المساعدة إلّا مضطرًا، ومعرّضًا للابتزاز، لأن المجتمع ليس مستعدًا لأن يُغامر في تمويل عمل تجاري أو حرفي صغير داخل البلد، إنّما هو مستعدٌ للدفع رغمًا عنه لـ”المهرّب”، خوفًا من تحمّل الجميع مسؤولية ما قد يتعرّض له ذلك الفرد من الأسرة أو العائلة أو العشيرة! وهنا يقع الجميع في شر أعماله ويصبح عرضة للابتزاز، ويستمر النزيف.
محمود محمد حسن عبدي