تتطور الأحداث في هذه البلاد متخذة كلّ يوم وجها جديدا، ومجتذبة إلى ساحتها لاعبين جددا، على وقع ثبات أو تغيّر المصالح الشخصية والأجندات الإقليمية، وأطماع التنظيمات الراديكاليّة.
بعد أن انشقت حركة الشباب من المحاكم الإسلامية بعد هزيمتها في حربها ضدّ الحكومة المؤقتة آنذاك، وضدّ وجود القوات الإثيوبية التي كانت تدعمها، أصبحت حركة الشباب التنظيم الوحيد في الصومال الذي يحمل في داخله بذورا جهادية، وقد أعلن انضمامه إلى تنظيم القاعدة الدوليّ في عام 2012م واستمرّ ينفذ هجماته وعملياته داخل الصومال وخارجه في كينيا وأوغندا ضدّ أهداف عسكرية حكومية وإفريقية وضدّ أهداف مدنية تابعة لهيئات ومنظمات دولية. ولم تكلل مساعى القوات الإفريقية للقضاء على الحركة بالنجاح رغم طول الفترة التي قضوها في جنوب الصومال.
وبعد ظهور تنظيم “داعش” في الساحة الإسلامية، أعلنت عناصر من حركة الشباب انضمامهم إلى هذا التنظيم، حيث حدث بينهم وبين حركة الشباب اشتباك عنيف في منطقة جوبا السفلى، تمكنت فيه الحركة من تشتيت القوات التى أعلنت انضمامها لـ “داعش” وقتل القيادي السابق في حركة الشباب والمنشق منها بالانضمام إلى ” داعش ” السوداني محمد مكاوي إبراهيم. وفي وقت تنهمك فيه حركة الشباب في استقطاب كثيف للمؤيّدين انشقت الخلية التابعة لها والمتواجدة في جبال غلغلا في منطقة بري في بونتلاند تحت قيادة عبدالقادر مؤمن وأعلنوا مبايعتهم تنظيم ” داعش ” في نهاية العام الماضي. وفي شهر مارس الماضي– وبشكل مفاجئ –أعلنت جماعة سمت نفسها “حركة شرق أفريقيا”ولاءها للأمير أبوبكر البغدادي، مما مثل كيانا جديداً يضاف إلى الكيانات التى انضمت سابقاً إلى داعش في إفريقيا كبوكو حرام النيجريّة.
ويأتي بروز كيان جديد يهدد تواجد حركة الشباب على مسرح الأحداث في جانبه الجهاديّ في الصومال في وقت تمر فيه حركة الشباب بتحديات كبيرة، من توالى الإخفاقات في عملياتها كما في مواجهتها الأخيرة مع بونت لاند، وتمكنت القوات الحكومية من إجهاض الكثير من عملياتها، والقبض على عدد من عناصرها أثناء محاولتهم تنفيذ عمليات انتحارية في العاصمة مقديشو، ما يعني أنّ الحركة تعاني من ضغوط وتتفاقم التحديات التى تواجهها، بحيث لا يستبعد أن تدخل في مرحلة انكماش وتضاؤل في القدرة على تنفيذ الهجمات المنظمة على نفس الوتيرة المعهودة عنها سابقاً.
التنظيم الجديد الذي دشن أعماله بالاشتباك مع أصدقاء الأمس لم ينس الهدف الأساسي لظهوره، حيث استهدف في فاتحة أعماله موكبا للقوات الأفريقية في ضواحى مدينة مقديشو. وإن لم تسفر هذه العملية عن أيّة خسائر ماديّة أو بشرية كما ذكر الناطق الرسميّ لقوات الأميصوم، إلاّ أنها تحمل في طياتها رسائل عدّة لكلّ من الحكومة ومن يتصل بها من المجتمع الدولي، وحركة الشباب نفسها، ومن يهمه الأمر أيضاً من غير هذه الأطراف. وفيما يلي نظرة على هذه الرسائل:
1- إعلان عن تواجد التنظيم في أرض الواقع: منذ إعلان داعش عن خليتها الجديدة في الصومال، والتى انشقت من حركة الشباب المسيطرة على أجزاء واسعة من جنوب الصومال، كانت التساؤلات تدور حول حقيقة ذلك، وما عساه يغيّر، وكيف ستكون العلافة بينه وبين حركة الشباب التي عرف عنها عدم قبولها بتنظيم آخر معها في الساحة الجهادية وما إذا كانت ستحصل حرب بينهما، كما حصلت بين جبهة النصرة و”داعش” في سوريا؟ أو يتعايشان كرفيقي درب؟
ففيما يتعلق بطبيعة التنظيم الجديد فقد كشفت عن طبيعته العملية التى تحمل سمات لا تختلف عن سمات العمليات التى تنفذها حركة الشباب من حيث الوسيلة التى استخدمت وطريقة تنفيذها. ولم تكن هناك دلالات تؤشر إلى حصول داعش الصومال على إمدادات عسكرية من تنظيم داعش الدولي الذي يمتلك إمكانيات حربية كبيرة، وما زال المنشقون من حركة الشباب الموالون لداعش يستخدمون موروثهم من حركة الشباب. ولعلّ ذلك راجع إلى أنّ عرى الصلة لم تتوثق بعد بين المنشقين والتنظيم الدولي، وربّما تختلف قوة الهجمات وتخطيطها في المستقبل بعد توثق العلاقة بين التنظيم المحلّي والدوليّ.
وحيث لم ينجم عن هذا الهجوم -الذي تبنت مسؤوليته داعش الصومال- أيّة خسائر فإنّه يحمل بصمات الأصل (حركة الشباب)، ولا يحمل توضيحاً عن حقيقة الإمكانات الحربية التي يمكن أن يكون عليها الموالون لتنظيم داعش في الصومال مستقبلاً بعد استحكام علاقته بتنظيم الدولة مع مرور الزمن، ومن السابق جداًّ لأوانه الاعتقاد بأنّ القوّة هي نفس القوّة، انطلاقا من العملية الحاليّة. ويمكن القول بأنّ التفجير الأخير قصد منه أن يلعب دوراً في إعلان وجود التنظيم الجديد، وتقع محاربة الحكومة والقوات الإفريقية في طليعة أهدافه،وأنّه قادر على تنفيذ عمليات بصورة لا تقلّ قوّة عن عمليات حركة الشباب.
2- رسالة لحركة الشباب: مفاد هذه الرسالة أنّ المحاولات اليائسة لحركة الشباب لسحق المنشقين من صفوفها في الأيام الماضية لم تنجح في منعه من الظهور والوجود بل وصل به الأمر إلى تخطيط عمليات هجومية على قوات الأميصوم، فهذه العملية من ناحية أخرى تبعث رسالة مكتملة الأركان لحركة الشباب، بأنّ التنظيم صار أمراً واقعاً وعلى حركة الشباب القبول به والكف عن محاولات سحقه.
3- تعقيد محاولات بناء الدولة في الصومال: نجحت الحكومة الصومالية بدعم قوات حفظ السلام “الأميصوم” في استعادة العاصمة من أيدي قوّات حركة الشباب، إضافة إلى طردهم من بعض معاقلهم في جنوب البلاد، ومع ذلك كانت الدولة الصومالية تعاني من العمليات الانتحارية المنظمة التى تستهدف مسؤوليها ومقرّاتها في داخل العاصمة، وفي ظل هذا المشهد الأمني المضطرب يبرز في الساحة تنظيم آخر يحمل نفس الأدوات والأسلوب والأفكار لتنظيم حركة الشباب، وربما يمتلك قدرة مالية عالية نظرا لطبيعة التنظيم الذي يدين بالولاء له، مما يعقد محاولات الصوماليين والمجتمع الدولي للخروج بالصومال من هذا المستنقع، ويجعل مهمة القوات الصومالية والإفريقية صعبة.
وقد ظهر في وسائل الإعلام مؤخراً خبر مفاده أن ” داعش ” في الصومال تمكن من تدشين قاعدة عسكرية لتدريب مقاتليه، وظهر القياديّ السابق في حركة الشباب الذي أعلن انضمامه لـ “داعش” عبدالقادر مؤمن في صور لمتدربين من تنظيم داعش نشر في وسائل الإعلام . وأكد مكتب التحقيقيات الفيدرالي FBI بأن الأجانب بدأوا ينخرطون في صفوف ” الداعش ” وقد إنضم إليه حتّى الآن 200 مقاتل، وتستخدم استراتجيتها المعروفة بـ ” بروباغندا ” مما يجعلها معقلا للأجانب، وفي قادم الأيام سنعرف ما إذا كان التنظيم الجديد يستطيع أن يثبت تواجده في أرض الواقع أم إنه سيصطدم بالتحديات أمامه المتمثّلة في القوات الصُومالية المدعومة بقوات الأميصوم من جهة وحركة الشباب من حهة أخرى!.