الآن سكت الرصاص ووقف النزيف وبدأ الناس يلتقطون الأنفاس وانطلقت عملية سياسية على علاتها. في واقع جديد هش وبحاجة إلى التثبيت والمساندة والرعاية، فهو مهدد بالزوال والعودة إلى ما كانت عليه الحال قبل ذلك، من حيث أنّه لا يمتلك الأرضية الصالحة لينمو فوقها لكونه غير نابع من إرادة وتوافق الأطراف، ولا توجد قوى وطنية ومحلية تحيطه بالدعم والرعاية الفعلية ما عدا قلوب المواطنين البسطاء، وإنما هو حال فرضه المجتمع الدولى وتعهده بالحماية والرعاية من خلال القوات الإفريقية لحفظ السلام التي وجد الكل نفسه أمامها مجبراً على إلقاء السلاح والانخراط في العملية السياسية لمن يرغب في تقديم طرح أو وجهة نظر.
واقع جلب معه الكثير من الارتياح على نطاق واسع لدى المدنيين، فلأول مرّة يتمكن الشاب الصومالي من التفرغ للتفكير في أن يحيا حياة طبيعية، ويكون نفسه من خلال التعليم أو تأسيس أعمال اقتصادية خاصة أو من أي طريق آخر مشروع. وأمكن مع هذا الواقع أيضاً نوع من الممارسة السياسية والمتابعة لها وإبداء الانتقادات والتعليقات بحق القادة السياسيين في كفاءتهم وصدقيتهم وإنجازاتهم وإخفاقاتهم، ولأول مرّة منذ اندلاع الحرب الأهلية يتحدّث القادة عن التخطيط لإنجاز مشاريع تطويرية كصيانة الطرق في العاصمة ومحاسبة الجهات القائمة على أموال القطاع العام وما شابه.
لا يعرف على وجه التحديد إلى متى ستستمرّ الرعاية الدولية لهذا الوضع، ولكنه إذا أحسن استغلاله يمثل فرصة تاريخية لاستعادة الحياة والنظام في البلاد ومعبرا إلى استعادة مكانة الصومال في الموازين الدولية، ويستوجب من القوى الوطنية تثبيته وإحاطته بالرعاية والحماية التي يتطلبها لاستمراره، وذلك من خلال إزاحة مهدداته بتقديم المعالجة القانونية والجذريّة لكبرىات مبرّرات عودة الحرب الأهلية والتي تتلخص في حسم خلافات بناء الإدارات الفيدرالية، وحصر السلاح في يد جيش وطني موحدّ بعيد عن الفساد والقبلية والطائفية وسائر الأمراض التي تفت في عضد هذه الأمة، وإنهاء العمليات العسكرية الدائرة حتى الآن في أماكن مختلفة من البلاد لإتاحة الفرصة لاستمرار العملية السياسية وحدها وسدّ الباب أمام أيّ عمل فوضويّ تدميريّ. مع ما يتطلّبه ذلك من الاتفاق على قانون للفيدراليات. وتحقيق الاعتماد على الذات في رعاية هذا المشروع من خلال تعزيز قوات الأمن والجيش الوطني بما يؤهلهما لتسلم دور القوات الإفريقية. كل هذا على نحو ما تتم الإشارة إليه في المحاور الآتية:
أولا: استكمال بناء الفيدراليات وتثبيت أسسها
كان السياسي الراحل عبد القادر محمد آدم زوبي – رحمه الله – قد عرض على حكومة الرئيس الراحل محمد سياد بري – رحمه الله – في السبعينات من القرن الماضي فرض النظام الفيدرالي في البلاد، لتلافي اقتتال وانقسام مخبوء تحت سحب الدخان. وحيث كان مؤشر الحماسة للوحدة ونبض الوطنية يومها في أعلى مستوياته فقد نعى الرئيس محمد سياد برّي على هذا السياسي أن يصدر منه ما اعتبره تغريداً خارج السرب وتوجها إلى الانقسام والتفتت بأمّة هداها القدر إلى أن تتعرف على ذاتها وتتحرر من الاستعمار فكريّا بعد أن تحررت منه عسكريًّا ووحدت صفها وباتت تنظر إلى عدوها نظرة رجل واحد.
ولم يمض غير قليل حتى انقطع الخيط الواهي وباتت معالم الفرقة والقبلية واضحة، وبدأت نذر الحرب الأهلية في الظهور، وهنا انكشف الستار للرئيس عما كان يستشفه ذلك السياسي من وراء الحجب، فما كان منه إلاّ أن طلبه للتشاور معه في سبل تطبيق الفيدرالية التي كان قد طرحها من قبل، علّها تسهم في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من دولة تتجه نحو الهاوية والمجهول. لكن ردّه هذه المرّة كان حاسما بعدم مناسبة الفيدرالية بهذا المفهوم من أن تمنح القبائل الصلاحيات التامّة لإدارة مناطقها وتنميتها بأنفسها في ظلّ الديموغرافية الجديدة التي أفرزتها سنوات من سياسة سياد برّي في دمج القبائل بعضها في بعض وإزالة الاختصاصات الموطنية بينها مشتركة في السكن والمرعي. ومغيرا واقع القبيلة وموطنها. فلا وجود لقبيلة تستأثر بمنطقتها دون أن تشاركها أقليّات أو تجمعات من القبائل الأخرى المهاجرة أصلا من منطقة أخرى. وقال زوبي: إنه لكي يمكن تطبيق الفيدرالية على الأساس القبلي يجب ردّ الوضع الديمغرافي إلى ما كان عليه سابقاً وفرز القبائل بعضها عن بعض، وإعادة التجمعات المهاجرة إلى مواطنها الأصلية. وهذا غير ممكن وغير مقبول.
والآن وبعد عقود من هذه المناسبة تمّ تبني النظام الفيدرالي وسط فهم مشوه ومشوش عنه، إذ أنّ مفهومه في أذهان المجتمع والقيادات السياسية لا يعدو كونه حرباً قبلية من نوع جديد، حيث تتاح الفرصة للقبائل المتقاتلة أن تكوّن نفسها مستقلّة كلّ بشؤونها عن هيمنة وتأثيرات القبائل الأخرى، وتتولّى بنفسها تنمية منطقتها في كافة المناحي الاقتصادية والتعليمية والصحية بل وحتى العسكرية على النحو الذي تتطلّع إليه بحيث تكوّن لنفسها ثقلا تؤثر به في القرار الفيدرالي وتستطيع الهيمنة عليه من خلال القوى السابقة بما فيه القوة العسكرية كما هو مستفاد من المواجهة الأخيرة بين بونت لاند وجلمذج، وليس آخرها مساعي التوسع من شراء الذمم والنخب وزرع الكتل الاستيطانية القبلية وابتعاث الأصول العر قية المنسية أو المختلقة الكاذبة لشخصيات مندمجة في إقليم ما لتمثل امتدادا لعرقيات إقليم آخر يمكنها من ادّعاء الشراكة في الأرض والتدخل الدائم والتأثير في مصير الإدارات الإقليمية الأخرى كما هو الحال بين جميع الإدارات التي تمّ إنجازها حتى الآن من جوبا لاند وجنوب غرب الصومال وبونت لاند وجلمذج.
هذا ما يعشعش في مخيّلة دعاة الفيدرالية وقياداتها. ومن جانب آخر تمّ تبني الفيدرالية مع أنّ عقبة التمازج القبلي في مختلف الأقاليم وزوال استئثار القبيلة بمنطقتها ما زالت قائمة، بل زادت وتراكمت وأضيفت إليها تعقيدات أكثر بفعل الهجرات وحركات النزوح الناتجة عن الحروب الأهلية وموجات القحط والجفاف والمجاعة المتكررة في مناطق مختلفة من البلاد، فلم تعد القبائل التي تختزنها الأذهان على أنها المستوطنة الأصلية في مناطق جوبالاند أوجنوب غرب الصومال أوبونت لاند – لم تعد مختصة بهذه المواطن بل تشاركها اليوم في المنطقة أقليات وتجمعات من أصول عرقية مختلفة، وربما زاحمتها وغالبتها ودخلت معها في صراع ونشأت بينهم علاقات كراهية واحتقان وتحفز إلى الاقتتال. ومناطق أخرى يراد الجمع بينها تحت إدارة واحدة ولا يرى سكانها قاسما مشتركاً بينهم يبرر اشتراكهم في إدارة إقليمية موحدة.
كل هذا كان سيجعل الأمر جديرا بالتدارس قبل تبنيه، لكن ضراوة إعصار التنافر بين القبائل لا تترك وقتاً للتأمّل والتدارس فيما يمكن وما لا يمكن. وسرعان ما ظهرت مصطلحات تصنف الناس من أبناء الوطن الواحد في الإقليم الواحد إلى مواطنين أصليين لهم حق الإدارة والمشاركة في تقرير شؤون البلاد. وغير أصليين أجانب لهم حق الإقامة بكفالة المواطن الأصلي وعليهم واجبات دفع الضرائب. ولا يحق لهم التصويت والمشاركة في القرار السياسي، والمعيار الذي اعتمد عليه هذا التصنيف هو معيار قبلي بحت وبغيض، وضيّق لايتسع للدمج والتجنيس، علماً بأنّ كثيرا ممن يوصفون بالأجانب أقدم استيطانا في المنطقة من بعض من هم في الواجهة السياسية. بل وكثيرون من هؤلاء الأجانب ولدوا في المنطقة ولم يعرفوا غيرها منطقة ولا غير شعبها إخوة. ومع ذلك يحرمون من حقوقهم وحرياتهم بسبب العرق والانتماء، بحيث يدفعهم هذا التمييز في حالات كثيرة إلى الهجرة من الموطن تحت ضغط هذه الممارسات بحقهم. ولا يوجد توجّه نحو تغيير هذا الواقع في المدى المنظور لدى السلطات الإقليمية بما يعيد إلى الأقليات حقوقهم ويحفظ لهم كرامتهم كمواطنين صوماليين أصلا وكمواطنين في الإقليم ثانياً.
لكل هذا يجب سن قانون الفيدراليات بما يحجّم هذه الممارسات اللاوطنية واللا أخلاقية ويسدّ الباب على كلّ النوايا الشريرة، ويعزز وحدة المجتمع الصومالي، ويضمن للمواطن حقه في العيش بكرامة في أيّ إقليم شاء من أقاليم البلاد دون أن يتعرض للتمييز أو الانتقاص من كرامته أو التضييق على حرياته أوالاعتداء على نفسه وعلى ممتلكاته بأي صورة من صور الاعتداء.
ولا ينبغي ترك هذا الأمر للإدارات الإقليمية تثبت ما تشاء وتستبعد ما تشاء. بل إن سن قانون الفيدراليات ينبغي أن يكون على مستوى الحكومة الفيدرالية وسلطتها التشريعية كما يجب سنه بما لا يقبل المراوغة والمماحكة، ويتضمّن بلغة بعيدة عن المطاطية والاحتمالية:
- تحديد المختص والمشترك من الأجهزة والمرافق، وهنا ينبغي الالتفات إلى الأضرار المترتبة على السماح ببناء جيوش إقليمية تابعة للولايات.
- تحديد المختص والمشترك من الثروات بين الأقاليم والحكومة الفيدرالية بما يحقق التقارب بين الولايات ويمنع مخاطر التفاوت في حجم الثروات الممتلكة.
- توضيح نظم توزيع الثروة بين الأقاليم وتقديم الخدمات إليها.
- تحديدا واضحا لمفهوم المواطنة وعدم المواطنة في الإقليم.
- نظم التجنس والحصول على حقوق المواطنة في الأقاليم من قبل المستوطنين الصوماليين الجدد.
- نظم الإقامة والتنقل بين الأقاليم بما لا يضيق حرّية المواطن أو ينتهك حرمته وكرامته كاشتراط كفالته من قبل مواطنين أصليين ونحوذلك مما هو مهين ومعمول به نوعاً ما في بعض الأقاليم حاليًّا.
- حقوق المقيمين الصوماليين من غير المواطنين في الإقليم وواجباتهم.
وبهذا فقط يمكن إنقاذ البلاد من شرور التفتت الذي يتهددها من النظام الفيدرالي بمفهومه القبلي، والاستفادة من خيراته، وبهذا يتحقق تدارك العواقب الوخيمة لإطلاق العنان للتيار يجرف البلاد والعباد إلى المربع الأول حيث الاقتتال والدم والدمار كما لم يحدث من قبل.