“…. أن الله يأبى أن تكون مجمل صلته بخلقه لحظات هدوء أو مناجاة في هذه البيوت التي أقيمت باسمه، ثم ينطلق الناس بعدها في جنبات الأرض يحيون كيف يشتهون…. وأن الأمة العاجزة عن استخراج بركات الله من أرض الله لن تؤدي رسالة الله، والأمة العاجزة عن تجنيد مواهب المسلمين لإعزاز المسلمين أمة تلقي بأيديها إلى التهلكة ” الشيخ محمد الغزالي
سيكون المقال الأسبوعي هذه المرة هو عن كتاب مشكلات في طريق الحياة الإسلامية للشيخ محمد الغزالي عليه رحمة الله مجددا، وذالك بطبعته الأولى الصادرة من دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع في القاهرة عام 1996م، وهو من الكتب الثمينة والأخيرة التي كتبها الشيخ المفكر قبل و فا ته العاجل في العام ذاته، وهو أقرب من الكتاب العادي إلى سجل موسع يريد الشيخ من خلاله إبداء ملاحظاته العامة على حياة المسلمين، ومشكلاتهم المتجددة منها وغير المتجددة وتحديد رؤيته على طبيعة وضعهم المتراخي وترك توصياته الوجيهة والعامة على اللذين – المسلمون- كان يعتبرهم أنهم يمرون على موقف خطير للغاية لم يأخذوا بعد احتياطاته الكافية ولم يكسبوا الوسائل الكفيلة بالتجاوز من مطبا ته.
واو د أن انوه للقراء جميعا بان مقالاتي التي أكتبها ويتم نشرها منذ الفترة في هذه المجلة وصفحة موقع المركز عموما لا تعبر عن رأيي الشخصي بقدر ما تعبر عن رأي صاحبها، ونقوم نحن من طرفنا بإعادة إنتاج الكتاب وكتابة خلاصة موجزة عنها، وذلك بهدف المعرفة عن محتواه واهم القضايا التي يتناولها والأفكار التي يقدمها والأعراض التي يعالجها بطريقة تحيي الذاكرة وتقوي وسائل التفكير وآليات التأمل وتشجع العودة إلى الكتاب عند الضرورة، ويساهم معالجة الموقف القائم وإيجاد الحلول له. وإذا كان لي رأي شخصي في المقال فلن يكون أكثر من اختيار الكتاب من غيره، ومعيار الاختيار ذاته، ويعرف الجميع بان كتابات الشيخ تتميز بالموضوعية وغزارة المعلومات واستثارة الهمم وسعة الأفق وكشف الحقائق وقوة اللغة التعبيرية التي تؤكد صدورها من قلب نابض وإيمان صادق على قضاياه
وفي مقدمة الكتاب يضع كعادته تصوره الأساسي في موضوع الكتاب قائلا بأن الإسلام يقدم الدليل عن ماسوا ه وانه رسالة توجب على معتنقيها أن يجعلوا مجتمعهم أجدر بالحياة وأقدر على النجاح، وان الشورى مبدأ أساسي من مبادي الإسلام، وأن الأمة لا تنهض بالهمهمة والبطالة والعجز المهين في ميادين الحياة. وان متابعته على النشاط الإسلامي المعاصر طوال سنوات الأربعين من عمره يشوبه الحب بالخوف، ويأتي ذالك الحب من كونه مسلما يريد للحق أن ينهض ويتفدم، كما يأتي الخوف الحقيقي من قوة الأعداء وغناهم ورغبتهم في الإجهاز وانتهاز الفرص للإفناء علي المسلمين، كما آن خوفه يمتد ليشمل بالمدافعين عنه، وان هولاء المدافعين لا تنقصهم الخبرة ولا الحماس ولكن ينقصهم عمق التجربة وحسن الفقه والاستعجال المسبب للكثير من المتاعب والخسائر الثقيلة، ويؤمن بان المسلمون في حالة التقهقر والتراجع على المستوى المدني والعسكري وكأنهم في حالة انسحاب منذ القرن الثالث عشر الهجري، وأنهم لم يظلموا عند ما هزموا في ميدان سباق الحياة بل أنهم هزموا بجدارة بعدما شوهوا الدين والتدين، وكان يتوقع وقوع أحداث كئيبة في الفترة المقبلة وتآكل الخريطة السياسية والوجود المهدد بالضياع على العالم الإسلامي، وذلك بإعانة بعض الكتاب والساسة المنتمون لعالمنا الإسلامي، وان المسلمون فشلوا حين اعتقادهم المبكر بعدم الصلة بين الحياة والعبادة وحسبوا أن مثوبة الله محددة في كلمات تقال ومظاهر تقام.
ويعتبر الشيخ الخلط الموروث في التصور العقائدي للأمة مشكلة حقيقية قائمة وقوية الأثر في المجتمع الإسلامي، حيث البعض منهم لايظنون الجهد المبذول في البحث عن البترول والمعامل الكيميائية لصناعة الأدوية والمواد الأخرى الكيماوية الضرورية في الحياة جهادا، ويظنون أن الجهاد منحصر في حمل السلاح وتلاوة الأوراد وتراجح المذاهب الفقهية بين بعضها البعض فقط، كما يظنون التقوى بذل وقت اكبر في القراءات الدينية واخذ قدر يسير من شؤون الدنيا وعلوم الحياة، ولا يفهم الجهاد على انه أصبح في الوقت الراهن عملا له امتدادات علمية تكاد تشمل كل شيء في الحياة العامة، ويتحفظ في الطريقة التي يفهمها الناس في مسائل فروض الكفاية والعين، ويعرفون النوافل عن الواجبات، وينسون بان الزمن والحاجة المتغيرين يعتبر مؤثرين اساسييين في تحديد الفروض، وقد يتحول ما كان يعتد في فترة زمنية ما من فروض الكفاية إلى عين، وقد يكون العكس صحيحا، ويكره الشيخ التدين الحاجب والمحجوب عن جمال الكون وعظمته، وعن فهم أسراره وتسخيرها لمصلحة الإنسان بوجه عام، ويرفض أن تكون العلوم الطبيعية ثانوية أو كمالية في الثقافة العامة والخاصة للأمة، و ويمنع الطريقة التي يصور البعض للإسلام على انه دين دموي المزاج، شرس المسلك يؤخر اللطف، ويقدم العنف ويهتم بقض الأظافر أكثر مما يهتم بقص زاوئد الأنانية، إلى جانب الصورة الموازية التي يقدمها الآخرون عن عالمنا الإسلامي بأنها هي دار تنهب فيها المال العام ويسودها حكم الفرد وتهان فيها كرامة المرآة ويعتدي فيه الحقوق وشوارعه مليئة بالقمامة، ومدنها وقراها شهادة بالتخلف الحضاري، ولا جرؤ للمتدينين إلا بحرب التصوير والغناء والموسيقى والسفور والتلفاز
ويشير – إيضاحا للمشكلة في الحياة الاسلامية – على أن أعداء الإسلام يكذبون عليه بيد أن بعض من المسلمين يشجعون الكذب على الإسلام حين يحدث اضطراب في الفهم على الفقه للدين والعمل به، ويكون السلوك العام بعيدا عن جوهر الدين وممارسة الحياة وغاية رسالة الإسلام ويكشف وجود خلط واضح بين إيمان الناس بالقدر وبين إتقانهم للعمل وقيامهم به، ويناشد ألا تكون العاطفة الحارة هي التي تقود وتسيّر، ويعلن وجود فقر في الفقه السياسي بمعناه الإداري والسياسي وتخلف في سياسة الحكم اختيارا وممارسة و المال كسبا وانفاقا، ويرفع صوته بأن ” دين الله لا يقدر على حمله وعلى حمايته الفاشلون في مجالات الحضارة الإنسانية الذكية، والثرثارون في عالم الغيب، والخرس في عالم الشهادة برايه “، وتفريط العرب في خدمة اللغة العربية والتي كان من المفترض أن تكون عالمية، ويرى أن تعليمها وتعميمها تكون فرض عين على المدرسين، وبذلك يكون أغزر مثوبة من قضاء الليل في التسابيح والتحميد، وذلك على اعتبار أنها لغة الوحي، ولأنها إذا ضاعت ضاع القران كله، ويؤمن بان النزعة القومية ليست إلا ستارا مفضوحا لحركات تخريبية يراد بها ضرب وحدة الإسلام ونسف قواعده في بلاده
ويشيد الشيخ المفكر أهمية الثقافة الذاتية أو الاصلية لبناء الفرد والأمة بشكل عام ومتانة عودها، وهي الثقافة الإسلامية الطابع على محتواها والتي تحدد شخصية الأمة وملامحها الفكرية والنفسية، وتوضح لها عقائدها وآدابها العامة، وتهتم بالتاريخ لربط الجيل اللاحق بالسابق والولاء بالقيم المقررة والشعائر الظاهرة، وهي أكسير الحياة والمجدد الدائب لطاقاتها الأدبية والمادية أيضا، ويدونها أو فقدانها تؤدي إلى اضمحلال العقل وضعف الدراسات الدينية وانكماش اللغة والأدب، وأن الخلل الظاهر على المسلمين المعاصرين يعود جزء منه في التناقض المتنامي بين وسائل التوجيه وبين سلوك النظام العام وممارسة المسوؤلية، وان المغالاة في تقدير الجانب الغيبي من الدين تتم على حساب الجانب العملي، كما يعود بعض من المشكلات القائمة في طريق الحياة المعاصرة هو التهرب من الاحتكام إلى الحقائق والميل إلى الأوهام والظنون، ووجود انجذاب في إيثار الحديث الضعيف من الصحيح، وفهم الخبر الصحيح على غير وجهه، وظاهر النص ضد مدرسة الرأي والشواذ ضد الاجماع والجمود ضد التطور وجعل الخلاف الفرعي أزمة حقيقية وكذلك الانشغال بذات الله والآيات المتشابهات عموما بدلا من المحكمات في القران الكريم والجزئيات والفروع بدلا من الكليات والمقاصد الأصلية.
ويرى الشيخ وجود خطا من بعض المسلمين في تعاملهم مع السنة الشريفة، وذالك نتيجة وجود ترويج للمرويات الضعيفة، وعدم وضع الأحاديث الصحيحة في غير موضعها الحقيقي، كما يوجد خطا في التعامل مع الرأي المخالف، والمجتهد المخطىء الآخر، وليس من الصحيح على الإطلاق أن يفقد الشخص تقديره واحترامه وعدم الاستفادة في إنتاجه الفكري واجتهادا ته الصائبة لمجرد اجتهاده غير المتوافق ربما على القناعة الفردية للآخرين، وتبنيه رأيا مخالفا خصوصا إذا كان عالما مشهورا في مجال معين من المجالات تتوافر فيه الظنون بحسن نواياه، ويوجد مشكلة على العاملين بعدم إعطاء السنن الكونية مكانته في العقل الإسلامي حتى أن البعض يرى بان المسلمون لا يفتقدون الإيمان ولا الإخلاص، ولكنهم يفتقدون التلطف في بلوغ الغايات و الإدراك في فقه السنن التي تحكم الحياة والأحياء، وأصبح الناس متجاذبين على المستوى الإسلامي بين الفريق الاستعجالي الذي يسعى إلى تحقيق نتائج عاجلة في وجوده، والانعزالي الزاهد عن مصاعب الحياة ومشقاتها رغم التحديات وضراوة المعركة وشدة الضغوطات في المجالات المختلفة من العالم الإسلامي وشعوبه، وكأنه لا يوجد طريقا ولا خيارا آخر سوى الانقسام بين التيارين.
والمكتبة الاسلامية زاخرة بالفقه بمعناه العام ولكنها قليلة في التشريعات ذات الصلة بالحياة والمعاملات العامة والجرائم غير التقليدية وقضايا العمل والعمال والأسرة وغيرها ويسميها الشيخ بالفقه الاجتماعي، ويدعو إلى ضرورة وقف الانفصال بين الإسلام والمجتمع وترشيد المسيرة العملية وسد الفجوة بين الفقه التربوي والتشريعي والمواءمة بين الاتجاه السياسي والثقافي، وبالأحرى بين القيادة الفكرية والسياسية وهو انفصال أحدث شروحا واخاديدا في المجتمع المسلم في تراكمه واستمراره، ولا ينبغي أن ينظر إلى التاريخ الإسلامي ورواسب قيادة الحكم الإسلامية مصدرا من مصادر التشريع الإسلامي المعتمد خصوصا في الألف سنة الأخيرة لأنها ناتجة من أوضاع متغايرة تكثر فيها الانانية والأطماع الشخصية والعصبيات القبلية والعراكات المستمرة، ولا يوجد فرق في المعنى بين المستبد العادل وبين العالم الجاهل والتقي الفاجر، وبمعنى آخر لا يمكن الاقتران بين الاستبداد والعدل، كما لا يمكن الاقتران بين الظلم والعدل .
ومن المشكلات الأخرى التي أصابت الأمة هي القبول بفكرة وقف أو إيقاف باب الاجتهاد، مع العلم بان اغلاق باب الاجتهاد معناه توقيف للنمو الفكري وتعطيل المواهب وواد الابداع في مواجهة المشكلات المتجددة، كما انه حبس للعقل الإسلامي وتقييد للحريات، ولكنه في الوقت ذاته يوافق وقف الاجتهاد في المجالات التي أخذت حيزا واسعا من الاجتهادات في الفترات المختلفة ولا يوجد فيها تقريبا ما هو متجدد ومتغير، وترك باب الاجتهاد مفتوحا في المجالات المتجددة الطابع والتي تحتاج إلى اجتهادات دائمة ومستمرة، وتتأثر بالزمن ومتغيراته، ويكثر في هذا المجال القضايا السياسية والمعاملات والمسائل المالية والقانونية والإبداعات العلمية والشؤون الدولية، ولذ لك غالبا ما تجده يحث العاملين في المجال الدعوى بمراعاة اختلاف المواهب والاهتمام بتطوير وسائل الدعوة، وتحديث أساليب العمل، وان تكون عقليتهم مرنة و تنطلق خطواتهم وحركاتهم العملية على أساس الذكاء واللباقة والفكر المستنير، ويعتبر أن آخر ما يجب أن بقكر فيه المصلح هو تغيير أجهزة الحكم.
وخلاصة الكتاب هو تقديم طرح متماسك في الفجوة المتسعة بين التطور والتغير الحاصل على مستويات المختلفة من الحياة وبين طرق التفكير ووسائل الدعوة وأساليب العمل ومنهجية القيادة ونبرة الخطاب المتبع على المستوى الإسلامي العام، كما يوجد تباين في حجم المؤامرات والقصور الظاهر في الأداء والممارسة العملية، ويكشف وجود خلل حقيقي في قضية مفاهيم العبادة والفروض والواجبات والفقه ومسألة النوافل والتعامل مع السنة النبوية بشكل عام وأثر هذا كله على النجاحات المتمايزة في المنجزات الحضارية والسباق في ميادين الحياة بين المسلمين وغيرهم، ويؤكد ضرورة توافر التدين غير المعلول والمشلول للبناء المجتمعي وعدم الاصطدام بالسنن الكونية وترشيد مسيرة العمل نحو الأفضل والزهد في القضايا الجدلية والخلافية بين المجتهدين وعدم الانشغال المفرط بالغيبيات والآيات المتشابهات والتركيز في المتفقات والمشتركات على المستويات المختلفة ويبدي كذالك أهمية اعتماد الخطط في العمل الإسلامي ومأسساة الحكم وأن يسبق تحصين القيم وتكثيف الجهود في تنمية الأخلاق والتربية والمهارات والثقافة الأصلية عن السعي إلى تحقيق نتائج عاجلة في الجهود القائمة بما في ذالك مسألة استيلاء الحكم رغم التفاوت في القدرات بين القوى السياسية المختلفة.
رحم الله السيخ المفكر، فقد كان مجدد ا في عصره يتجدد عطائه مع تنوع وتعدد إنتاجه الخالد .
والله المستعان